أحلام الصقر في بناء منظومة العمل العربي

صدرت صحيفة الجريدة يوم الإثنين الموافق 6 نوفمبر 2023، مزينةً بعنوان بارز، صاغته «أحلام محمد الصقر في بناء منظومة موحدة للعمل العربي» متجاهلاً الحقائق التي يعيشها العالم العربي، ومتجاوزاً التباعدات التي أصابت العمل العربي المشترك، متناسياً الدروس التي عرفناها ونعيش في بيئتها، ومن أبرزها أن الأهداف والمصالح بين الدول العربية متباينة والأولويات متباعدة وأحكام الجغرافيا متفاوتة، وأن الطرح القديم للتجمع العربي فاشل في محتوياته ومعطل في آلياته.
كنتُ في سوريا لمدة شهرين في عام 1957، محاطاً بشعارات سورية محتواها أحلام ووسائلها أوهام وحصادها هدام، كانت المدرسة العروبية الشامية تضخ تمنيات وحدوية بعيداً عن حقائق الدولة السورية التي كانت الأحزاب السورية تريدها إقليما مؤقتا يحافظ السوريون عليه انتظاراً لطوفان الأمة القادم الذي سيزيل الحواجز مع لبنان ويسحب الأردن في ضم وحدوي يتحول كقاعدة للانطلاق للوصول إلى ضم العراق مع نظرات مستقبلية حول مصر.
كان المناخ السياسي غريباً علينا، طوفان الشعارات العروبية، لا وجود بارز لصوت يريد بقاء سوريا في حدودها آنذاك، ولا خطوات يستقوي منها الإقليم السوري، فلم يكن نظام سوريا والحفاظ على سلامتها الإقليمية طاغياً في حوارات المجتمع، كان الأمل الانضمام التلقائي الأردني لمسيرة الوحدة، ويتبعه لبنان، مع تصور بأن سوريا قادرة على تحطيم إسرائيل وادعاءاتها، هكذا كان الشعور السوري العام.
كانت مدرسة البعث صاخبة في صالونات السياسة، وكانت أحزاب قومية أخرى، ولم يكن هناك رضا بواقع سوريا ولا يتواجد الصوت القوي لحمايتها، وكأنها بناء مؤقت سيتبعه الكيان العربي الكبير.
كان طغيان الوهم بالوحدة العربية حاداً إلى حد التزام المعارضين الصمت خوفاً من عقاب الحزبيين، وطغى الشعور العام بأن الوحدة قادمة وبقوة وستخلص العرب من هزيمة فلسطين، كانت دمشق مدينة تعاظم حزبي وصخب سياسي وضعف في الحرص على النظام.
ولم يتبدل هذا التعلق السوري بجبال الوهم إلا بعد تجارب الوحدة مع مصر، فكانت بداية الوعي بحقائق العرب.
خرج حزب البعث من الحكم وفقد السلطة وطغى عليه الارتباك وعاش في دوامة الاكتئاب فترة طويلة إلى أن تمكن التيار اليساري بقيادة حافظ الأسد من إعادة الحزب إلى حكم سوريا، وادعى أن الحزب يسعى لتعميق الشرعية العروبية للنظام الجديد، بينما الواقع أنه شيد نظاماً طائفياً سرق الشعارات للتحصن بينما يستمر في تعميق القبضة العلوية لإدامة البقاء، ونجح في تخليص سوريا من وهم الدولة العروبية التي تولدت بذورها من التربة السورية.
كان فشل تجربة الوحدة العربية – السورية طعنة في قلب النظام الناصري الذي بقى جريحاً ينتظر تحولاً قد يثأر لصدمة الانفصال السوري عن الوحدة المصرية – السورية التي تسيدها النظام المصري.
والحقيقة أن النظام السوري الانفصالي جاء ترجمةً للمعارضة السورية من انفراد القوى المصرية بالشؤون السورية، كما جاءت هذه النزعة السورية للانفصال من ضيق سوري لاختطاف سوريا وشؤونها وكل ما فيها وانحسار تواجد أهلها من التأثير في مصير البلد.
كانت هذه الشكاوى المرة والقاسية مناقضة تماماً للولع السوري في الوحدة العربية، ولا ينسجم مع تطوع السوريين للاستجابة للنداء العروبي، كما رافق الانفصال وعي وطني سوري يحرص على الشام السوري وتربته، وبما يتناقض تماماً مع عواصف العاطفة السورية وتشدقها بالوحدة، وكأن شعب سوريا ضاق ذرعاً من خناق الشعارات الوحدوية.
ويمكن أن أشير إلى ميثاق الجامعة العربية المكتوب بلغة عالية بأهداف نبيلة يُلزم الجميع احترام سيادة الدول الأعضاء.
ويمكن القول أيضاً إن ميثاق الجامعة واتفاقية الدفاع العربي المشترك هما الوحيدان اللذان نالا الإجماع، ومع كل تلك الأناشيد عن الميثاق والالتزام بالدفاع الجماعي عن الأرض العربية، لم تقدم الدول الأعضاء الوفاء لهذه المبادئ العالية والنبيلة، وقد جاءت كارثة الغزو العراقي على دولة الكويت امتحاناً لقوة الالتزام ووفاء الدول الأعضاء لهذه اللوحات الأنيقة من القيم والمبادئ السياسية والإنسانية، فسجل التاريخ بكل قسوته تخلي أحد عشرة عضواً عربياً عن الملحمة الغنائية النبيلة التي سجلها الميثاق، فابتلع الكويتيون مفاجأة التخاذل واللؤم وواصلوا السير مع من يعاضدهم في التراجيديا المأساوية التي خلفها الغزو وعززتها الانهزامية العربية.
لم تنل اتفاقيات الجامعة العربية التنفيذ الجماعي والاحترام إلا ما ندر..
حضرتُ الكثير من الاجتماعات العربية من وزراء خارجية ورؤساء حكومات وقمم، استمعتُ إلى مداولات عن النخوة والترابط المصيري، وكالعادة تنتهي الاجتماعات عبر بيانات فصيحة لا يتم احترامها ولا ينفذ ما فيها من مشاركة، وتتجاهل واقع كل دولة، مع عدم الاهتمام بإملاءات الجغرافيا على سياسة الدول الأعضاء، مع تجاوز علاقات ثنائية للدول مع حلفاء وشركاء في قضايا إستراتيجية، وقد نتج عن هذا الأسلوب في العمل العربي عدم الجدية لأن قراراته ليست واقعية وتوقعاته غير حقيقية وحساباته تمنياتية، ومن هذه الأجواء البعيدة عن الواقع سطع وهم التضامن العربي، وكنا نتمنى أن يستعرض لنا الأخ محمد الصقر حالة العلاقات العربية الآن، فينظر متفحِّصاً العلاقات بين الجزائر والمغرب وتونس وواقع ليبيا، وحروب السودان، ومعاناة الأردن ولبنان ومحنة الشعب السوري، وغياب الاستقرار عن العراق، وينظر جنوباً تجاه اليمن والصومال، فلن يتوصل إلى ما يطعم طموحاته ولن يلمس وجوداً لآماله، فما يتمناه ليس من الهموم ولا من أولويات الدول.
وأود الاقتراب من مجلس التعاون وتجربته التي عشتها شخصياً والتي سعدنا جميعاً بولادتها وانتعشنا كثيراً في تواجدها واستمرارها، ومع التجربة ومرورها من البسيط إلى الصعب برزت تساؤلات عن المدى الذي سيصله مجلس التعاون في اقترابه من قضايا عالية الحساسية وهل سيتوقف بجوار السيادة أم يريد العبور عليها إلى صالة الممنوعات.
ويحدث ذلك رغم أن النظام الأساسي لمجلس التعاون يصر على مجرى التعاون، وعبر هذا التعاون تتوصل الدول إلى اتفاقيات حول التجارة والاستثمار والانتقال والتملك، وتبادل المعلومات وتقريب السياسيات والتنسيق بين الشأن الخارجي.
ومع ذلك لم تسلم تجربة المجلس من أذى السياسة، ومن الاختلاف في الاجتهادات.
وتعود البيئة الخليجية إلى نشاطها وحيويتها، لكن تلك التجربة المؤلمة التي مرت بالمجلس أفرزت حجماً كبيراً من الحذر والتأمل، وليس سهلاً إعادة الصفاء إلى المجرى الذي اعتدنا عليه في السنوات الأولى لمجلس التعاون، ويحتاج المجلس إلى وقت أكبر لكي يوفر حجم الطاقة والحيوية التي اعتدنا عليها.
ومع كل هذا السجل المرهق، يخرج من الكويت ومن ناشر صحيفة الجريدة ومن رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الكويتي لمدة عشر سنوات، دعوة لتشكيل موقف عربي موحد يستند إلى مبادئ التضامن العربي ويعيد بناء منظومة العمل العربي المشترك على أسس سياسية واقتصادية سليمة وواقعية.
لم تفعل الدول العربية الأعضاء في الجامعة العربية، شيئاً يصلح الدمار الذي لحق بالعمل العربي المشترك والذي أفرزه عجز نصف أعضاء الجامعة العربية عن إدانة العدوان العراقي الذي دبره النظام العراقي البائد، وبقى كل شيء على حاله، والأخ محمد الصقر محارب دائم، واقعي، ومدرك استحالة الوصول إلى قاعة الفضيلة العربية التي يتمناها.
*نقلاً عن “القبس
“تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.