مقالات وآراء

الأرباح والخسائر في لعبة أكبر

رفيق خوري

الرئيس دونالد ترمب أمسك باللعبة من أيدي القوى الإقليمية في المنطقة، وأعاد الدورين الروسي والصيني إلى مسافة طويلة وراء الدور الأميركي. وما كان من الصعب عليه الانتقال سريعاً من توجيه ضربة هائلة للمنشآت النووية الإيرانية إلى فرض وقف النار على إسرائيل وإيران، المتعبتين من تبادل التدمير في حرب قاسية.

ولم يكن خارج التوقعات إعلان ثلاثة “منتصرين” في حرب هي عملياً حرب “منتصر” واحد وعاجزين اثنين عن الانتصار. فليس في حرب كالتي بدأتها إسرائيل بالطائرات وردت عليها إيران بالصواريخ انتصارات، بل مجرد أرباح وخسائر لدى كل طرف. ولا شيء يمنع من الادعاء أن نتنياهو “ملك إسرائيل” وأن المرشد الأعلى علي خامنئي “إمبراطور غرب آسيا”، وأن ترمب “ملك العالم”، لكن على الجميع الجلوس في هدوء و”البحث عن الحقيقة في الوقائع” حسب الحكمة الصينية.

ذلك أن حسابات الأرباح والخسائر ليست نهائية ولا كاملة في حرب ناقصة، حرب هي الأولى بين دولتين وجيشين في المنطقة بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 بين التحالف المصري-السوري وإسرائيل، لأن كل الحروب الأخرى كانت بين إسرائيل ومجرد فصائل مثل “حزب الله و’حماس‘ وأنصار الله الحوثيين”، حرب لا تستطيع أطرافها تحمل دمارها وكلفتها ومضاعفاتها طويلاً، وليسوا قليلي الرغبة في إكمالها حين تسمح الظروف. وما تقوله الوقائع واضح، بصرف النظر عن القراءات المتسرعة والقراءة الأيديولوجية.

إسرائيل ربحت إبعاد الكابوس النووي وتدمير جزء من منصات الصواريخ، مقابل خسارتها لما روجت له من كونها “القلعة الحصينة”، وانكشاف ضعف قدرتها على حماية أصولها الاستراتيجية من ضرب الصواريخ الباليستية.

إيران ربحت تأكيد القدرة على الصمود وإلحاق الأذى بإسرائيل، وما لم يكن على جدول الأعمال أمام أميركا وإسرائيل، وهو بقاء النظام، لكنها خسرت أسطورة الاقتدار، وبدت مكشوفة أمام الطيران الإسرائيلي من دون حماية فعلية، بحيث دفعت في الضربات اليومية أثماناً لا تقل عن الأثمان التي دفعتها في “الضربة الاستباقية” لجهة اغتيال القادة الكبار وعلماء الذرة، كما أن قوتها الصاروخية لفتت أنظار أوروبا والعرب إلى أخطار الصواريخ الباليستية على أمن أوروبا والمنطقة.

ترمب ربح الحرب عبر الضربة العسكرية التي شكلت مشهد الذروة في التراجيديا القتالية، ويريد أن يربح السلام.

ومن المبكر رسم السيناريوهات حول الصورة الجديدة للشرق الأوسط، فلا تقسيمات سايكس-بيكو كانت ممكنة لولا الحرب العالمية الأولى وهزيمة السلطنة العثمانية والإمبراطورية النمسوية-المجرية والإمبراطورية البروسية ثم القيصرية. ولولا الحرب العالمية الثانية لما حصلت البلدان العربية على الاستقلال، ولما كان من السهل أن تولد إسرائيل. والتطورات الدراماتيكية التي يتحدث عنها أصحاب الخيال، وبينهم أصحاب رؤية بعيدة، تحتاج إلى حرب أكبر من حرب غزة ولبنان وحرب إسرائيل وإيران وإن دخلتها أميركا مباشرة.

وما حدث ليس السيناريو الخطر الذي تصوره بعض، وهو أن تسجل إسرائيل نصراً مطلقاً على الجمهورية الإسلامية أو بالعكس أن تلحق طهران بإسرائيل هزيمة كاملة. ففي مثل هذا السيناريو تقع المنطقة من المتوسط إلى الخليج، وحتى من المحيط إلى الخليج بحسب الشعار القديم، تحت هيمنة قوة إقليمية واحدة تتحالف مع قوة دولية واحدة أو أكثر. وهذا هو الخطر الأكبر الذي يتطلب التخلص منه عقوداً وتضحيات وعذابات.

وليس سراً أن كثراً في المنطقة راهنوا على أن تنتهي الحرب بخسارة الطرفين، مقابل قلة راهنت على ربح إيران وقلة راهنت على ربح إسرائيل، ولكل أسبابه وظروفه وموقفه المبني على تجارب الماضي وما فعلته في سوريا ولبنان وفلسطين والعراق، وسواها هيمنة إسرائيل وهيمنة إيران. والسؤال المباشر الآن هو ماذا بعد وقف النار؟ هل تنتهي الحرب أم أن المنطقة في استراحة محارب قبل معاودة القتال، وما التسوية التي تقود إليها المفاوضات بين أميركا وإيران؟

طهران توحي أنها ستكمل برنامجها النووي وأن الأضرار التي وقعت في المنشآت لم تدمر كل شيء، كما أنها لن تتخلى عن حقها في تخصيب اليورانيوم. وترمب يقول إن الضربة الأميركية دمرت المنشآت النووية بالكامل، وسط تشكيك حتى في أوساط الاستخبارات الأميركية، ويهدد بضرب أية منشأة تحاول طهران إعادة بنائها وإحياء وظيفتها، ونتنياهو يهدد بما هو أكثر، وهما معاً يصران على شعار “صفر تخصيب” داخل إيران.

وإذا كان أنصار إيران يتصورون أن الجمهورية الإسلامية ستخرج من المفاوضات مع أميركا، لا فقط برفع العقوبات عنها بل أيضاً بإطلاق يدها في المنطقة، فإن الأوساط الأميركية والإسرائيلية تضع على جدول الأعمال ثلاث لاءات، لا للمشروع النووي الإيراني ولا لتطوير البرنامج الصاروخي ولا للمشروع الإقليمي الإيراني وأذرعه.

الحرب التي كشفت نقاط القوة والضعف لدى كل من إسرائيل وإيران، تركت لدى بعض انطباعاً خلاصته أن الجمهورية الإسلامية خسرت دور القوة الإقليمية، ولم تعد قادرة على حماية الرأس ولا الأذرع من إسرائيل.

ومقابل الرهانات على الطائرات والصواريخ لصنع التاريخ، يقول هيغل “الفلسفة وحدها تستطيع قراءة ما خفي من التاريخ”.

نقلاً عن إندبندنت عربية

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى