اقتصاد روبنسون كروزو

كنت قد نويت أن أطلق عنوان “اقتصاد حي بن يقظان” على هذا المقال، إلا أنني لم أجد في قصتنا العربية الفلسفية “حي بن يقظان” لابن طفيل ما يربطها بالاقتصاد رغم قراءتي للقصة عدة مرات لعلي أجد فيها ما يشفع لي بهذا العنوان. بنى ابن طفيل قصته الخيالية على مزيج من الفلسفة والتصوف مكملة لفكرة تداولها ابن سينا وابن النفيس والسهروردي. وتحكي قصة طفل رمي به إلى جزيرة نائية، وأرضعته غزالة ثم عاش بقية عمره في هذه الجزيرة النائية على سبع مراحل عمرية يستكشف أسرار الكون والطبيعة والحياة والنفس البشرية متطورا في إدراكه كلما انتهت مرحلة من مراحله العمرية. فخرجت القصة على شكل رسالة فلسفية توحي بأن الإنسان وبفطرته ومن خلال التفكر والتجربة دون أي مؤثرات اجتماعية من الممكن أن يصل لمرحلة الكمال العقلي والروحي والإنساني.
الذي دعاني للتفكير في ذلك العنوان هو ما أطلقه الإنجليز على بطل روايتهم روبنسون كروزو والتي كتبها الأديب البريطاني دانيال ديفو في بدايات القرن الثامن عشر مسمي “الرجل الاقتصادي” ويرمز الاقتصاديون لمغزى الرواية أحيانا بـ”اقتصاد روبنسون كروزو”. الرواية مستوحاة من قصة ابن طفيل إلا أن قصتنا العربية إنسانية متصوفة موغلة في الروح، والرواية الإنجليزية رأسمالية مادية صرفة باستثناء بعض اللقطات الروحية، ولا يجمعها بالعربية إلا فكرتها واسم خادم السيد كروزو المدعو “جمعة”، وخوف بطلها من أن يجده العرب فيستعبدونه.
في الفترة التي سبقت الثورة الصناعية الأولى خصوصا النصف الأول من القرن الثامن عشر وهي الفترة التي نشر فيها ديفو روايته، كانت لندن الرأسمالية تعج بالمصارف ورجال الأعمال والتجار والمغامرين وحركة البيع والشراء فيها نشطة، بل إن ديفو ذاته كان رجل أعمال ومضارباً في سوق الأسهم حديث المنشأ ومؤلفاً نشيطاً، غير أنه لم يصبح غنياً وعانى في آواخر حياته من الفقر.
صحيح أن صدور الرواية سبق تأليف آدم سميث لكتابه “ثروة الأمم” – الذي يعده الكثيرون بداية ظهور النظرية الرأسمالية – بنصف قرن تقريبا إلا أن الرأسمالية كمفهوم وممارسة وليس كنظرية كانت حين صدور الرواية في بداية تشكلها وتوهجها وبدأت تتخذ شكل المنهج المقبول بين التجار ولدى الحكومات وفي أسواق المال ليس في بريطانيا فقط بل في كل أنحاء أوروبا.
الرواية تأخذ القارئ في رحلة في حياة الرجل الاقتصادي روبنسون كروزو الشاب الذي تشاجر مع أبيه ثم هرب ليبدأ مغامراته التجارية ويجمع ثروة هائلة من خلال تجارته مع العالم الجديد، وانتهت به مغامراته وحيداً فوق جزيرة نائية في عرض البحر مفلساً لا يملك إلا ثيابه، بعد أن تحطمت سفينته وغرق جميع ركابها. أمضى روبنسون 28 عاماً على سطح الجزيرة النائية استغل خلالها موارد الجزيرة الطبيعية حتى غادرها غنياً في نهاية الرواية. الرواية كانت – لمن تأمل في تفاصيلها – تعكس ما كان يدور في لندن حينئذ، وما يدور في مصارفها ومخازنها ومتاجرها ومكاتبها وما يدور على أرصفة نهر التايمز من أعمال وصفقات تجارية.
إن موضوع الرواية وحبكتها وسردها تدور حول الطريقة التي كان فيها بطلها روبنسون كروزو الرجل الاقتصادي يحقق ثروته من لا شيء، فالثروة والحصول عليها هما محورا الرواية الأساسيان. في الرواية يجد روبنسون 36 جنيها ذهبيا في غرفة القبطان الغريق فيسرقها ثم يسأل نفسه: ما الفائدة منها؟ بل ما هو تعريف المال ذاته في مثل وضعه في هذه الجزيرة المعزولة؟ كروزو بدأ بزرع الجزيرة وجني المحاصيل ومتابعة الدورة الاقتصادية الزراعية والتوسع في الاستيلاء على أكبر قدر من أراضي الجزيرة التي ليس فيها غيره. ثم إن كروزو حصل على صديق أسود لجأ للجزيرة هارباً من أكلة لحوم البشر فعينه خادماً وعبداً له وعين نفسه ملكاً على الجزيرة. على عكس صاحبنا العربي حي بن يقظان الذي لم يستطع المكوث بعد عودته للمدينة ولقاءه البشر، فلم ترتح روحه في عالمهم فعاد مع معلمه الذي التقاه في آخر أيامه للجزيرة وانقطعا للعبادة حتى توفيا.
يعتقد الاقتصاديون أنه من خلال دراسة اقتصاد وهمي لشخص واحد فقط يمكننا تطوير كثير من المفاهيم الاقتصادية الأساسية بعد وضعها في مثال مبسط لشخص واحد، ثم يمكننا تطبيقها على قوالب معقدة تجمع عدداً أكبر من الناس.
ولعل من أهم القرارات التي يتخذها الاقتصادي الواحد هو كيفية استغلاله للوقت والموارد لتلبية احتياجاته الآنية مع طريقة للادخار المستقبلي الذي يصنع له ثروة نتيجة تأجليه لمتع حالية من أجل متع مستقبلية أكثر بكثير في حدود جزيرته الخاصة. لكن السؤال الذي نحتاج نسأله أنفسنا دائما هو: هل حياتنا مجرد رحلة اقتصادية كرحلة كروزو تنتهي بثروة أم رحلة روحية كرحلة حي بن يقظان تنتهي بعزلة أم هي مزيج متوازن بينهما.
حديث للروح:
﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖوَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖوَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾
الرياض
5 يوليو 2023
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.