صناعة العامة والرعاع 2

أشرنا في الحلقة السابقة إلى رأي النخب عموما في العامة وهو ملخص وأن النخب كانت تستغل حراك العامة وقوتهم في مشاريعها الفكرية الخاصة المتمثلة في النفوذ المذهبي أو السياسي وأحيانا الفئوي ،إلا أن هذه الخدمات التي يؤديها العامة لم تكن ذريعة عند النخب لإيجاد دور، هنالك واقعة تاريخية تحكي كيف أن للنخبة مشروعا خاصا بهم بخلاف مشروع العامة، فقد ذكر ابن الأثير في أحداث سنة “اثْنَتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ” قال: ((فِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَفِرَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ بِسَهْلِ بْنِ سَلَامَةَ الْمُطَوَّعِ، فَحَبَسَهُ وَعَاقَبَهُ.
وَكَانَ سَبَبَ ظَفَرِهِ بِهِ أَنَّ سَهْلًا كَانَ مُقِيمًا بِبَغْدَاد يَدْعُو إِلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ بَغْدَاد، فَلَمَّا انْهَزَمَ عِيسَى أَقْبَلَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ نَحْوَ سَهْلِ بْنِ سَلَامَةَ، لِأَنَّهُ كَانَ يَذْكُرُهُمْ بِأَقْبَحِ أَعْمَالِهِمْ، وَيُسَمِّيهِمُ الْفُسَّاقَ، فَقَاتَلُوهُ أَيَّامًا، حَتَّى صَارُوا إِلَى الدُّرُوبِ، وَأَعْطَوْا أَصْحَابَهُ الدَّرَاهِمَ الْكَثِيرَةَ حَتَّى تَنَحَّوْا عَنِ الدُّرُوبِ، فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِكَ.
فَلَمَّا كَانَ السَّبْتُ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ، قَصَدُوهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَخَذَلَهُ أَهْلُ الدُّرُوبِ لِأَجْلِ الدَّرَاهِم الَّتِي أَخَذُوهَا، حَتَّى وَصَلَ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى مَنْزِلِ سَهْلٍ، فَاخْتَفَى مِنْهُ، وَاخْتَلَطَ بِالنَّظَّارَةِ، فَلَمْ يَرَوْهُ فِي مَنْزِلِهِ، فَجَعَلُوا عَلَيْهِ الْعُيُونَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ أَخَذُوهُ، وَأَتَوْا بِهِ إِسْحَاقَ بْنَ الْهَادِي، فَكَلَّمَهُ فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَتْ دَعْوَتِي عَبَّاسِيَّةً، وَإِنَّمَا كُنْتُ أَدْعُو إِلَى الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَنَا عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ السَّاعَةَ، فَقَالُوا لَهُ: اخْرُجْ إِلَى النَّاسِ فَقُلْ لَهُمْ: إِنَّ مَا كُنْتُ عَلَيْهِ أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ بَاطِلٌ. فَخَرَجَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ! قَدْ عَلِمْتُمْ مَا كُنْتُ أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ (مِنَ الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ) السَّاعَةَ. فَضَرَبُوهُ، وَقَيَّدُوهُ، وَشَتَمُوهُ، وَسَيَّرُوهُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ بِالْمَدَائِنِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ كَلَّمَهُ بِمَا كَلَّمَ بِهِ إِسْحَاقَ بْنَ الْهَادِي، فَضَرَبَهُ، وَحَبَسَهُ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ قُتِلَ خَوْفًا مِنَ النَّاسِ، لِئَلَّا يَعْلَمُوا مَكَانَهُ فَيُخْرِجُوهُ، وَكَانَ مَا بَيْنَ خُرُوجِهِ وَقَبْضِهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا)).
ويصف المسعودي هذه الواقعة في مروج الذهب فيقول: ((وثارت الرويبضة وسمو أنفسهم المطوعة، وهم رؤساء العامة والتوابع)).
فهذا الرجل الرويبضة يعتقد اعتقاد الخوارج وهي دعوة متطرفة في أفكارها ومآلاتها، إذ تدعي الإصلاح أولا ثم تتحول مع مجموعات العوام نحو التطرف والعنف فتفعيل نشاط العامة أو ما أصبح يطلق عليه هذه الأيام مسمى “شباب الصحوة ” فيعد العلاقة الملتبسة والمأزومة بين العامة والنخب تحول مسمى العامة إلى الصحوة ومحرك هذه الفئة منذ القدم وحتى هذه الساعة هم الوعاظ والقصاص، فمن خلال تجمع العامة في مكان واحد ويشحنون ضد أو مع موضوع معين هو ما يصنع الحراك وطبيعة هذا الحراك أنه طفولي النزعة ومتطرف الأفكار فمثلما انتهز الإسلام السياسي فرصة وجود الكاسيت أول وجوده وأفلام الفيديو والنت وكل ما هو حديث بشكل انتهازي، ولا يعني هذا أنهم دمجوا أنفسهم في الحداثة كمتبنين لها وإنما كانت علاقتهم بالحداثة استهلاكيا محدودا لما يخدم مشروعهم الفكري، وإن كانت هذه الطريقة غوغائية أو متطرفة فالمهم هو أن تخدم الإسلام السياسي وهذا ما فعلوه من استغلال للعامة وأطلقوا عليهم مسمى الصحوة أو شباب الصحوة، وكما نرى هنا أنه مصطلح تحبب ومدح، وهو يدل على أن جماعات الإسلام السياسي سواء كانت تنتمي لجماعات راديكالية أو غوغائية أصبحت تتبنى “شباب الصحوة” وإن كان ذلك بشكل مبطن أحيانا.
مع ملاحظة أن أي فعل غوغائي أو متطرف أو عنيف يوجد بين “الإسلام السياسي” من يستنكره أو يشجبه أو يتبرأ منه، فمجموعة الإسلام السياسي ترى أنها من النخب، أما تيار الصحوة فهو خليط من العامة والسوقة والرعاع، والغريب أن بعضهم يظن أنه من النخب بل إنها تقضي العمر من غير أن تحدد موقعها من الحراك والممارسة.
من أراد أن يدرس “الصحوة” فعليه ألا يتجاهل ما يشابهها في التاريخ الإسلامي، ومن خلال هذه المطابقات سوف يفهم وسائل العلاج والاحتواء وذلك من خلال صنع البدائل والإشراك في صناعة الحداثة، ففي يوم من الأيام أشاع المتقولون أن جموع الشباب ليس لهم مستقبل إلا من خلال خطاب “الصحوة”، وقد أدركنا ما انتهت إليه هذه الأفكار من تطرف وإرهاب والتحليق خارج المستقبل والتحديث، ويكفي أن نراجع ما صدر منذ حراك الصحوة من كتابات كثيرة تطرح ترشيد الصحوة وتصويب مسارها الغوغائي وجماعات الإسلام السياسي على يقين أن ما أطلق عليه الصحوة أو شباب الصحوة هو تفعيل لحراك العامة والغوغاء إلا أنهم ألبسوه شيئا من شعار التدين المفرغ من محتواه الحقيقي. المشكلة الحقيقية أن نخب الإسلام السياسي لم يفهموا طبيعة حراك العامة (الصحوة) وأنه يأتي وبمعيته الغوغائية والطيش والفكر الطفولي، لهذا لا تستغرب أنه نشأ فقه ساذج وفتاوى متسيبة لا تدل إلا على الوسواس السلوكي، وهي فتاوى تتجه نحو نوافل التفكير ولمم السلوك فقيادات العامة (الصحوة) يعلمون أنهم يسيرون بهذا القطيع (الصحوة) نحو الهاوية إلا أنهم يرجحون بالرغم من ذلك هذا السير لأسباب نفعية خالصة وملحة.
وكيف لا يصبح الكادر الصحوي منقادا بإخلاص لقياداته الحركية وهم من أعادوا له اعتباره داخل المجتمع وحولوه من سوقي مشمأز منه داخل المجتمع إلى (صحوي) محترم داخل حراك ذي نسيج اجتماعي خاص أصبح الصحويون ينظرون له كبديل عن الأسرة والبيت ولعلنا نعود في يوم من الأيام لتفصيل ذلك.
المصدر: العربية
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.