مقالات وآراء

غرفة التجارة والصناعة.. وأشواك المجلس

عبدالله بشارة

أجمل الصفحات المضيئة في تاريخ الكويت هي تلك التي سجلت الحس الكويتي العميق الذي رافق تنامي دور رجال الأعمال في التوجه السياسي الوطني للإمارة والذي تميز بتجذير الهوية الوطنية والتمسك بها وما ترمز إليه من غيرة حريصة على الحفاظ على كيان الإمارة.

هذه حقيقة بارزة دونتها الأحداث التي مرت بها الكويت ولا سيما مع تولي الشيخ مبارك الصباح حكم الإمارة، ومنذ ذلك العهد يكتب التاريخ فصلاً مثيراً يشير فيه إلى التواجد القوي لرجال الأعمال داخل الساحة السياسية للبلد، مع إدراك الشيخ مبارك الصباح لأهمية مكانة هؤلاء التجار في الاقتصاد الكويتي المعتمد كثيراً على النشاط الكويتي لاستغلال البحر، سواء في الغوص بحثاً عن اللؤلؤ، أو الإبحار البعيد تجاه آسيا وأفريقيا، واضعاً الأساس لعلاقات تجارية رصينة ومستمرة بين الكويت وهذه المناطق، موظفاً الأسطول البحري التجاري الكويتي لهذا المسار المشحون بالمخاطر والمغامرات.ADVERTISING

وقد كشفت طبيعة العلاقات بين حاكم الكويت الشيخ مبارك وبعض كبار رجال الأعمال حتمية التفاهم وضرورات التعاون بين الطرفين، مع احترام الدور البارز لهؤلاء التجار في حياة الكويت الاقتصادية والمعيشية، فمع تنامي طموحات الشيخ مبارك في تأكيد دور الإمارة الإقليمي وسعيه لتجنيد دور رجال الأعمال، كان لا بد من التفاهم بين الطرفين حول الدور المطلوب منهم ومراعاة الوقت المناسب لمشاركتهم.

كما يسجل التاريخ أيضاً بأن الشيخ مبارك فوجئ بحجم الدور الاقتصادي والمعيشي الذي يحمله التجار في حياة الكويت، الأمر الذي جعله يرسل ابنه سالم المبارك إلى خارج الكويت ليتفاهم معهم حول العودة واستئناف النشاط دون تأخير، ولكي تتم عودة الجميع يذهب الشيخ مبارك بنفسه ليحقق التفاهم مع عميدهم التاجر هلال المطيري، وتكتمل الاستعدادات لاستئناف مسيرة البحث عن اللؤلؤ بعد توقف غير متوقع، سبب آلاماً للكويتيين، وأضر بالتجار ورجال البحر.

صاغت تلك الوقائع نموذجاً لعلاقات تعاونية تفاهمية وطيدة بين التجار والحكام، كان دور التجار فيها مزيجاً بين التجارة والسياسة، فيها رؤى ومواقف، ومع تكاثف التعاون تحولت التفاهمات إلى شراكة بدأت مع الشيخ مبارك ورافقت الأبناء والأحفاد، تميزت بالثقة والاحترام المتبادل، كما ارتفعت خلالها مساهمة هؤلاء التجار في الاقتصاد الكويتي الذي خلق الترابط بين ملاك النخيل في البصرة وأهل البحر من نواخذة وبحارة، في تجمع شراكة حياتية استمرت إلى أن تضخمت صادرات النفط في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، كما تواجد التجار وبقوة في المجلس الاستشاري الذي بدأ مع حكم الشيخ أحمد الجابر عام 1921، لكن التجربة تلاشت بسبب الخلافات في الاجتهادات بين الأعضاء، ومع ذلك تصاعد دور التجار في متابعة التطور السياسي للبلد في حرص على تأكيد الدور الشعبي في إدارة البلد مستفيداً من التحولات الإقليمية ولا سيما من دور الجوار التي تعلم فيها بعض أبناء التجار ولا سيما من ملاك بساتين النخيل في البصرة، متأثرين من قراءات في فنون السياسة والفلسفة والقانون.

كانت الفترة من 1915 حتى 1950 صاخبة إلى حد ما، استقبلت فيها الكويت شخصيات عربية، واتسع فيها دور التعليم وتكاثفت أعداد المعلمين العرب، وتواصل الانفتاح الكويتي الاجتماعي على ما تحتويه كتب المعرفة التي تصدر من الدول العربية، مع متابعة التجار الكويتيين للتطورات العربية في إيجابياتها وفي أزماتها ولا سيما قضية فلسطين مع تواجد مدرسين من هناك حاملين آلام الصدمة، وشارحين تفاصيل المأساة.

جاءت أحداث عام 1938 من تضخم التوقعات، ومن رغبة في تأكيد دور رجال الأعمال في انفتاح الشعب الكويتي تجاه الحداثة، وتبرز رغبته نحو المعرفة، واختصر مساهمات رجال الأعمال في زراعة الوعي السياسي الشعبي في أبرز أربعة مسارات استوطنت اهتمامات المواطن الكويتي في النصف الأول من القرن العشرين:

أولاً: تأكيد دور المواطن في ممارسة حقوقه السياسية متجاوزاً ما يتمتع به من حقوق مدنية، ومن خلال تواصل رجال الأعمال مع حاكم الكويت الشيخ أحمد الجابر، تم الاتفاق على صياغة مشروع دستور، يعرضه التجار على الحاكم، وهذا ما تحقق بعد اتفاق هذه المجموعة على صيغة دستور يحمل تطوراً واسعاً، وقد وافق عليه الشيخ أحمد الجابر بعد تردد.

واعتماداً على المبادئ التي يحملها الدستور انطلقت الكويت في تجربة انتخابات محدودة جاء منها مجلس عام 1938، وقد سجل التاريخ بأن الكويت تحمل سابقة في التزامها بتوفير حق المواطن في التطور السياسي.

وتطورت رسالة التجار من رغبة إلى دستور يصون الحقوق السياسية للمواطن.

ثانياً: حمل التجار منذ بداية القرن الماضي حتمية التوسع في تنوع آليات التعليم الحديث وشكلت المدرسة المباركية أول ثمار الجهد والمال من المواطنين عبر تبرعات شيدت المدرسة التي يلعلع اسمها في تاريخ الكويت، وشارك التجار في الإشراف على التوسع والتطور في المدارس وفي المناهج مستقدمين مدرسين من دول الجوار العربية، حاملين ألواناً ثقافية مختلفة عما عرفه الكويتيون واعتادوا عليه ولا سيما في الفكر السياسي والالتزام بالقيم والعادات.

ثالثاً: سجل التاريخ دور الطليعة التجارية الكويتية في تنظيم البلد بتطوير مسؤوليات بلدية الكويت واعتماد الانتخاب لأعضاء المجلس البلدي، والواضح أن نظام المجلس البلدي في الكويت استوحى الكثير من تجربة البحرين التي تتناسب مع التقاليد الكويتية.

رابعاً: لا يمكن تجاهل دور كتائب رجال الأعمال في استحضار هموم الشعوب العربية السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى الكويت، ومتابعة تبدلاتها والتعاطف مع طموحات شعوبها بالاستقلال والتحرير، واختلاطهم مع رجال الفكر والأعمال في دول الجوار وفي حوض الشام ومصر ومتابعتهم للأحداث في تلك الدول، ولاشك بأن هذا التواصل والمتابعة وفرت للكويتيين كباراً وصغاراً الوقوف على أحلامهم في الاستقلال وهمومهم السياسية والحياتية، وأفرز المشاركة الكويتية وتفاعلها مع هموم الآخرين من العرب.

هذه مقتطفات من الإيحابيات التي جنتها الكويت من كتائب رجال الأعمال الذين انفتحوا على الهند وشرق أفريقيا والمحيط العربي في الشام وفي مصر، مع خصوصية ربطت الكويت بالأخوة في المملكة العربية السعودية، في تناغم يشمل الطموحات ويستذكر المعوقات.

الدور الريادي لرجال الأعمال الكويتيين يشغل مكانة بارزة في لوحة الحياة الكويتية ومن أبرز ما يزينها الضغط على حق المواطنة في المسار السياسي للوطن، في صيغة ثنائية تشمل المدني والسياسي.

لا يزال هناك الكثير من التساؤل عن حقيقة دور الصيغة السياسية في بطء المسيرة الكويتية، بالمقارنة مع قفزات الآخرين، ومهما كانت التحليلات تبقى الحقيقة الساطعة عن دور الحقوق السياسية في تعظيم الوحدة الوطنية وصون ترابها..

من المناسب أن نشير إلى أن نواب اليوم يتمتعون بحريات حملها رواد السياسة من قطاع التجار إلى الكويت، ودافعوا عنها بكل قوة، ولا سيما الحق السياسي ليجسده حالياً دستور الكويت.

* نقلا عن ” القبس “

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.

زر الذهاب إلى الأعلى