مقالات وآراء

القاهرة وأنقرة: تمّت المصافحة… فمتى المصالحة؟!

محمد صلاح

نعم كان الحدث لافتاً، حتى أن البعض اعتبره تحولاً دراماتيكياً ستعقبه تطورات مهمة على صعيد العلاقات المصرية – التركية، وتغيرات في موازين القوى في منطقة الشرق الأوسط وأشكال الصراعات فيها، فالمصافحة بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ونظيره التركي رجب طيب أردوغان في وجود، أو قل برعاية، أمير قطر الشيخ تميم بن حمد على هامش حفل افتتاح بطولة كأس العالم لكرة القدم في الدوحة، استحوذت على اهتمام الأوساط السياسية في العالم والشعبية في القاهرة وأنقرة وربما عواصم أخرى، خصوصاً أن سخونة وكثافة تصريحات أردوغان التي تعهد فيها كثيراً عدم مصافحة السيسي أو حتى التعامل معه لم تبرد بعد، مقابل تجاهل الدبلوماسية المصرية الرد على السلوك التركي الذي اعتبرته دائماً معادياً، لكن من دون الدخول في مساجلات مع المسؤولين الأتراك، ناهيك بالطبع بإيواء تركيا أعداداً غير قليلة من المطلوبين المصريين، وبينهم محكومون في قضايا تتعلق بالإرهاب وقادة في تنظيم “الإخوان المسلمين” الإرهابي، إضافة إلى عشرات المنصات الإعلامية والقنوات التلفزيونية التي ظلت تعمل من قلب المدن التركية، ولا تبث سوى ما يسيء إلى مصر ويستهدف الحكم فيها ويحرّض شعبها على الفوضى.

صحيح أن السلوك التركي تغير نسبياً على مدى السنتين الأخيرتين بإبعاد بعض رموز “الإخوان” أو توقيفهم، وإغلاق قنوات تلفزيونية حرّضت ضد مصر، لكن إيقاع التغيير لم يرض القاهرة، وبقيت معضلات لم تحل رغم لقاءات جرت بين مسؤولين في البلدين، ووساطات تدخلت لحل التناقضات والوصول إلى قواسم مشتركة.

وليس سراً أن الملف الأكثر تعقيداً ذلك الخاص بطريقة التعاطي التركي مع “الإخوان”، فالرئيس السيسي يصفهم دائماً بأنهم “أهل الشر”، ولا يفرّق بينهم وبين التنظيمات الراديكالية كـ”أنصار بيت المقدس”. وفي أسفاره ولقاءاته مع قادة العالم، يداوم على أن ينتقد سلوك الغرب عموماً وتركيا خصوصاً باعتبار “الإخوان” جماعة غير مسلحة، كما أن أجهزة الدولة تتعامل مع “الإخوان” باعتبارهم جماعة إرهابية. وهنا يأتي السؤال: كيف سيواجه أردوغان هذه المعضلة، وأي خطاب سياسي سيتبناه إذا ما قَبِلَ بتوسيع الإجراءات التي تمنع “الإخوان” من استخدام الأراضي التركية في أعمال عدائية ضد مصر؟ ناهيك بالطبع بموقفه تجاه هؤلاء الذين استوطنوا المدن التركية من المصريين الفارين.

هل يمكن أن تتحقق مصالحة بعد المصافحة، بينما هؤلاء يمارسون الأفعال نفسها التي ظلوا على مدى عقد كامل يمارسونها؟ صحيح أن المصالحة، بالنسبة إلى مصر، ستوقف، أو قل ستحد، من استنزاف “الإخوان” للدولة وأجهزتها، وستهدئ الأوضاع وتعيد الاستقرار إلى المجتمع، ما يسهم في إنعاش الاقتصاد وتحسينه، لكن الأوساط الشعبية في مصر تسأل عن حق الشهداء والأضرار التي تعرضت لها مصر، وتجزم بأن الثمن سيكون باهظاً إذا ظلت تركيا مركزاً لنشاط “الإخوان”، ومن ناحية أخرى، سيدخل أردوغان في صدامات مع جهات مؤيدة له متوغلة في مفاصل الدولة تفوق في أعدادها وتأثيراتها أعداد “الإخوان” وتأثيرهم. نعم السياسة لا تعرف المواقف الثابتة، وتتغير فيها القرارات والإجراءات بحسب المصالح والظرف التاريخي وموازين القوى، والواقع لا يشير إلى أن مصلحة ستتحقق بين مصر وتركيا، بغض النظر عن تراث الماضي القريب، إلا بعد اتفاق بين الطرفين تضمن به القاهرة توقف كل الأعمال العدائية من أي طرف من داخل تركيا.

ولا يمكن تغافل تأثير تنظيم “الإخوان” على مسألة المصالحة. فالمؤكد أن التنظيم سيسعى بكل قوة، وسيستخدم كل إمكاناته وعناصره للحؤول دون إتمامها وتخريب خطواتها ودق أسافين الخلافات كلما اتفق الطرفان على حل هذه الأزمة أو تلك المعضلة، ويسابق “الإخوان” وكل الجهات الداعمة لهم الزمن، وقبل أن تثمر المشاريع العملاقة التي يجري تنفيذها في ربوع مصر، ويسعون جميعاً إلى إشاعة مناخ سلبي وتوزيع طاقة الإحباط على الجميع، قبل أن يبدأ المواطن المصري يشعر بجدوى الجهود التي تبذل لرفع المعاناة عن الناس، وإصلاح أحوال الاقتصاد وتحسين أمور الحياة، فيجني ثمار تضحياته وصبره وقدرته على التحمل. أما اعتماد “الإخوان” ومن يحترمونهم مفردات تقوم على شتم وسب وحرق كل من يبدي رأياً مؤيداً للسيسي، أو يدعم الدولة في مواجهة الإرهاب، أو يذكِّر الناس بكوارث “الإخوان” في الحكم، وتحالفاتهم مع التنظيمات الإرهابية في سيناء بأسلوب يتجاوز مسألة رغبتهم في تجاوز إحياء أو تعمد الخروج عن الأخلاق، فيهدف إلى هز ثقة مؤيدي الدولة في أنفسهم، وجعلهم يخشون إعلان آرائهم الداعمة للدولة، وبالتالي يتنازلون عن مواقفهم.

إنه إرهاب من نوع آخر، لكن القائمين عليه لم يفكروا يوماً في أن الإرهاب الدموي الذي يمارسه حلفاؤهم في سيناء ومدن مصرية أخرى لم يؤثر، ومضت الدولة من دون أن تسقط، فهل يفضي إرهابهم المعنوي إلى نتيجة، هل سيسقط السيسي باختلاق السلبيات والصيد في كل مياه عكرة أو بحرق مؤيديه معنوياً؟ إنها أسئلة بسيطة وإجاباتها معروفة. سيستمر “الإخوان” وداعموهم في ممارسة الإرهاب المعنوي، بينما الدولة المصرية تترسخ وتقوى وتسترد عافيتها ويستعيد الشعب فيها معنوياته!

ولا يحتاج الأمر إلى أدلة أو براهين لإظهار الموقف التركي تجاه الحُكْم في مصر على مدى سنوات، فالقاهرة تعتبر الرئيس التركي نفسه ينتمي أصلاً إلى الجماعة ذاتها التي حكمت مصر لسنة ثم أُطيح بثورة شعبية، وهو ظل لا يكل ولا يمل من إعلان موقفه ويواصل هجومه الحاد وإطلاق عباراته اللاذعة ضد الرئيس السيسي، ويعتبر ما جرى في مصر “انقلاباً” ويسوّق العبارات نفسها والمنطق ذاته الذي تتحدث به جماعة “الإخوان المسلمين”. لكن اللافت أن الرئيس المصري تفادى دائماً التعليق علناً على المواقف التركية من بلاده أو هجوم أردوغان عليه ولم يتحدث عن الأمر في أحاديثه، واكتفت الإدارة المصرية عادة ببيانات قصيرة ومختصرة تصدر عن وزارة الخارجية لتوضيح ما ترى أنه مغالطات أو تدخلات تركية في الشأن المصري، أما وسائل الإعلام المصرية فلم تفرّق ما بين مواقف أردوغان من مصر ومواقف كل قادة جماعة “الإخوان المسلمين” وعناصرها، سواء كانوا الموجودين داخل مصر أم المنتشرين في دول العالم، الذين تبدو خطاباتهم ومواقفهم السياسية وكأنها تطبيق لـ”كتالوغ” يحفظونه وينفذون بنوده.

هناك ملفات عدة أخرى تتشابك وتتعارض فيها المصالح المصرية – التركية، كالغاز في المتوسط والتقاطعات مع قبرص واليونان والوضع في ليبيا ومناطق أخرى في المنطقة، لكن كلها معضلات يمكن حلها بالطرق الدبلوماسية والمحادثات والتفاوض بين البلدين للوصول إلى حلول تحقق مصالحهما معاً، من دون إحداث الضرر لأي منهما.

* نقلا عن “النهار العربي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.

زر الذهاب إلى الأعلى