ثقافة وفنونعربي ودولي

د. دلال مقاري: العالم يتنفس برئتي فراشة

الدكتورة دلال مقاري باوش، ألمانيا

 

ننتمي إلى الحياة، أكثر من انتمائنا إلى السياسات والأيديولوجيات المتصارعة! نعبّرعن دواخلنا التي فاضت بالأسى، نمجّد الإنسانية والمحبة والنقاء، تاركين وراءنا الفساد والأحقاد والإهمال والدمار.

لم تكن الكورونا إلا فخا ومأزقا خطيراً وخفياً، إلتهم منّا متعة الحياة بشرطها الأساسي * الحرية * وغيّب عنا متعة إستسلامنا لليوميات والعاديات.

ومن إستطاع أن ينفذ خارج هذا الفخ، بقوة قدرية، وجد نفسه معزولا طوعا أو كراهية، داخليا وخارجيا! وسقط مجردا وخاويا ومصدوما،  بدل أن ينتعش بفرح استمرارية الحياة.

دعونا نخرج من هذا الفخ أولا بأن نعيد ترتيب ما فات.

حيث تبدأ الحكاية بأن عالمنا الكبير يقرع ناقوس الخطر منذ سنوات، نتيجة الوضع البيئي لكوكب الأرض.

لأن ضرورات التطلعات التكنولوجية وتسييرها أدى إلى إحداث أضرار كارثية في كوكبنا.

فنحن نواجه الآن إفسادا في التوازن البيئي الذي قادنا إلى إفساد حياة الإنسان وعلاقته بالبيئة والأرض والكون.

ومع ذلك لم يفت الأوان بعد كي نمنح لهذا الكون وهذه البيئة وهذه الأرض حقها الشرعي في أن نحافظ عليها، ونعيد لها وهج الإهتمام وكفاءتنا في العمل لتبقى الحاضن الأمثل للبشرية.

جعلتنا أزمة الكورونا اليوم نجيد الإصغاء إلى صوت الله، صوت الكون، صوت الطبيعة، وصوتنا الداخلي، لنعود مجددا إلى حالة المصالحة والسعي والإيمان والتضحية، استخلاصا مستحقا بعد قساوة التجربة.

مؤمنين بضرورة التعايش بين البشر برغم الفوارق المحلية نتساعد بالتعددية الفاعلة لإنقاذ البشرية وأمّنا الأرض، بعيدا عن العولمة السطحية وأمنيات الحداثة والمزيفة.

لنؤكد مجددا بأننا ننتمي إلى الحياة، في صراعنا *الكوروني* بين الموت والتوق المطلق.

ربما تنهار كل الأيديولوجيات وتسقط أكثر الحكومات والسلطات، ولكن ماذا عن دواخلنا ؟

هل يتغير توقنا إلى الحياة، بسعادة وسلام وأمن وحرية؟

إن محنتنا الآن أممية، بشرية وكونية شاملة، جعلتنا نتنفس جميعا برئتي فراشة!

لتدفعنا باتجاه إتخاذ موقف ما ! قرار ما ! إنقاذا للبشرية والكون.

مازلنا نبحث عن مفتاح بعض شفرات الحياة حتى نستسلم إلى متابعة العيش دون قلق.

فهذه الظاهرة المفاجئة التي اندفعت إلى السطح ، تستحق الاهتمام والبدء بحالة من المراجعة والنقد الذاتي.

هل كانت علاقتنا بالطبيعة والكون وما يحيط بنا ،  محصنة كمغامرة آمنة ؟

هل كانت أوضاعنا مستقرة وحياتنا راسخة الأركان؟

هل كنا نصغي إلى صوت الطبيعة وصوت الكون في تجاربنا واختراقاتنا؟

طالما لايزال الموت يهددنا، هذا يعني أننا لم نعيد الثقة بعد إلى الطبيعة، والكون وذواتنا ومازلنا نشكك بقدرات هذا الكون وطاقته التي تسكن حتى

أصغر حيواته.

الصدمات تجعلنا نغوص أكثر في دواخلنا، وكأنها واسطة تعيد الإنسان إلى نفسه وتحفر فوهة الوقت في وجهه.

وتدفعنا كطاقة هائلة إلى التفكير والإحساس والمراجعة والنقد وتحرض طاقتنا التخيلية لتخترق الأحداث والأشياء بالمسائلة والتأمل والتبصّر إنطلاقا من أزمة الواقع.

فماذا تبقى لنا من الوقت؟

علينا أن نصغي إلى صوت الحق فينا وفي الكون، صوت الله الذي منح الأشياء كينونتها وماهيتها وقوانينها لتستمر بحكمة ونظام كوني دقيق.

قريبا سينتهي كل شيء ! محكومون بالأمل ننتظر نهاية الكابوس ، لننفرد بالسؤال عن معنى الحياة ، بعد هذه المرحلة التاريخية التي جعلتنا نعيد الإعتبار للأشياء المهملة والمنسية التي أجحفنا في تعاملنا معها.

طريق عودتنا قريب، يتراءى كظل طائر من بعيد يحمل إلينا رسالة، وبشارة وغبار الطلع لنخصب الأرض مجددا فتزهر الحدائق ، وتفتح البيوت بواباتها الخشبية، ويخرج الأطفال إلى رمال اللعب احتفالا بالعودة.

لا لم يتأخر الوقت، لنمنح للبشرية السلام وللأرض السلام ونتابع رحلة الحياة كما نشتهي وبفيض من الشوق والانتظار.

لا لم يتأخر الوقت، لنعيد ترتيب جواريرنا الخاصة، يومياتنا وعلاقتنا بأمنا الأرض، بالكون والحياة.

نعم تغير كل شيء الآن! وأصبحت للأشياء والحيوات قيمتها المضاعفة، حتى باتت تدهشنا رئتا الفراشة وأثرها في الفضاء!

هل أدركنا حقا جحودنا؟ وإجحافنا؟ وتسابقنا على الدمار؟

شوقنا إلى الحياة يفيض الآن كبئر فتحت سدادته فإنساب بمحتواه على الأرض حميمي الشوق مليء بالتأملات في قيمة الحياة ، والكون، والأخلاق والحرية والعدالة، بعد أن صارت هذه الكلمات تستحق إعادة النظر إليها بعين الإعتبار والتقدير ، في هذه التجربة الحرجة من حياة البشرية.

برئة أخرى ( نتنفس هذه التجربة ) رئة توحد العالم، أمام مرآة الذات والسؤال الغائب الحاضر ( من أنا في هذا الكون وكيف لي أن أكون ؟ ).

قلق كوني بات يجمعنا يوحدنا أمام موقد الأعصاب المحترقة، بأي رئة نتنفس الآن ؟ وما هي هوية الهواء الذي يشغلنا؟

نفكر بالمؤامرة ؟ نفكربسيناريوهات وإستراتيجيات الأعداء المتصارعين .

ونتوقف أكثر عند فكرة جديدة و مشاعر جديدة ( ياالله كم ظلمنا أنفسنا وظلمنا هذا الكون ).

في هذه اللحظات الهجينة، تكتب البشرية تاريخا جديدا قد يكون الأكثر بشاعة ! أو الأكثر حكمة ؟ فسؤال الموت الذي يسود العالم الآن، سيكون قادرا على تقرير مصائرنا في لحظة قلقة ، بين الأمل واليأس ، فهل صارت حياتنا فائضة عن الحاجة؟

فيروسة صغيرة ، كائن صغير وفكرة كبيرة إمتلكت القدرة على أن تهز العالم فتصبح مركز إهتمام البشرية لتبقى (أزمة التشرد والعنف والجوع والهجرة والحروب ) فكرة هامشية أمام طغيان الفيروسة البريئة ! البغيضة ! التي سلبت منا السلام العناق اللقاء الحرية و …… حياتنا.

فيروسة بريئة ! بغيضة ! مهمة ! أشارت إلى مقدار ضعفنا وإهمالنا وجحودنا

وعنفنا تجاه أنفسنا وحياتنا والكون.

ما الذي تريده منا ( حكاية الفيروسة البريئة البغيضة؟ )

هل أرادت أن تعلمنا كيف تستعيد الأرض قيمتها ؟ كيف نتصالح مع الكون وأنفسنا وحياتنا لأننا إمتداد لهذا الكون؟

هل أردات تعلمنا إكتشاف ضعفنا ، إكتشاف ثغرات حياتنا؟

هل أرادت أن تشير إلينا بأن نعيد إكتشاف أنفسنا والآخر ، وفتح بوابات التأمل في رحلة إكتشاف الذات ،النص ،السياق وعلاقتها مع البشرية والكون

هاهي الأرض تأخذ نفساعميقا لتستريح الآن من لهونا وإهمالنا ، بعد أن أنهكت الكورونا قوى هذا العالم.

ويبقى السؤال المعلق،  على أي رصيف ستقف البشرية  بعد هذه الأزمة ؟

د. دلال مقاري
زر الذهاب إلى الأعلى