مقالات وآراء

“أم عمرو” في عيون الشعراء

عبدالعليم حريص

لم تحظَ امرأة بشهرة كما هو الحال مع “أم عمرو” فهذه الكنية وردت في أشعار أغلب العرب ولم تخلو حقبة أدبية إلا ووجدنا كنية أم عمرو متصدرة المشهد، وقد تكون أم عمرو فتاة لم تزل أو امرأة وعندها أولاد ولكن ليس بينهم عمرو.

ولعل أشهر ما قيل في أم عمرو:

إذا ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار

وهو مثل صيغ في قالب شعري، وذاع صيته، ويضرب للشخص الثقيل حينما يرحل أو ضياع شيء غير مهم، وأنت تتمنى ذلك في نفسك، وقد كثرت حولة الروايات لعل أشهرها ما روي عن الجاحظ:
دخلت يوما مدينة، فوجدت فيها مُعلما جميل الهيئة، فسلمت عليه فرد السلام ورحب بي فجلست عنده وسألته في القرآن والشعر والنحو فإذا هو كامل الآداب، فانصرفت منه على أن أعود إليه لأستمتع بمجالسته .

وجئت يوما لزيارته، فوجدن مكانه مغلقا، فسألت عنه فقيل لي: مات له ميت فحزن عليه وجلس في بيته يتلقى العزاء؛ فذهبت إليه في بيته فإذا هو جالس مطأطئ الرأس فقلت له: عظّم الله أجرك، لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، كل نفس ذائقة الموت فعليك بالصبر .

ثم سألته: هل المتوفى ولدك؟ قال لا، أبوك قال لا، أخوك قال لا، زوجتك قال لا؛ فقلت له: فمن هو؟

قال حبيبتي، فقلت لنفسي هذه أولى العجائب؛ قلت له، سبحان الله، النساء كثير وستجد غيرها؛ قال: أتظن بأنني رأيتها؟

قلت في نفسي: فكيف عشقتها وأنت لم ترها؟

فقال المعلم: كنت يوما أنظر من النافذة فرأيت رجلاً يسير في الشارع ويقول:
يا أم عمرو جزاك الله مكرمةً رُدي عليّ فؤادي أينما كانا

لولا أن أم عمرو هذه أحسن ما في الدنيا من النساء لما قيل فيها هذا الشعر، فعشقتها وتعلّق قلبي بها!

فلمّا كان بعد يومين مرّ ذلك الرجل بعينه في نفس المكان وسمعته يقول :
لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمارُ
فعلمت أنها ماتت فحزنت عليها وأغلقت مكتبي وجلست في الدار أتقبل العزاء.

فقال الجاحظ : يا هذا، كنت قد ألّفت كتابا في نوادركم معشر المعلمين، وبعد أن جالستك عزمت على تمزيقه وتقطيعه، والآن قد قوّيت عزمي على إبقائه، وأول ما أبدأ بك إن شاء الله!

حكاية أبي أيوب

أما الرواية الثانية، فقد حكي أنه في إحدى حارات القاهرة القديمة كانت تعيش عجوز في عقدها السابع من العمر، تدعي بأم عمرو، وكانت حادة الطباع سليطة اللسان، تفتعل المشاكل مع أهل الحارة وتتشاجر معهم بدون أسباب تذكر، لدرجة أنها حددت لكل أسرة يوماً تتشاجر معهم فيه،

وفي أحد الأيام وفد علي الحارة ساكن جديد مع أسرته، يقال له “أبو أيوب” وكان له حمار يركبه للذهاب إلي مقر عمله، وبينما كان أبو أيوب يتعرف علي أهل الحارة الجديدة وأسرها قالوا له: إن موعدك أنت وأسرتك للشجار مع أم عمرو غدا “وسردوا له قصتهم معها وبينما هو يفكر في الأمر وكيف يواجه الموقف وقد شاركته زوجته في التفكير، فاهتديا إلي أنهما لا يتعرضان لأم عمر هذه، ولن يردا عليها مهما بلغ الأمر، وبزغ الصبح وأطلت الشمس بأشعتها الذهبية علي الحارة، وعندما كانت زوجة أبي أيوب تفتح نافذة الغرفة وتطل على أبي أيوب وهو يضع للحمار العلف والفول، من ليقوي علي حمله إلي حيث عمله، وبينما هم كذلك فإذا بأم عمر تكيل لهما من ألوان السباب والشتائم.

ما لا يخطر علي بال أحد، وهما لا يعيران أي اهتمام لها، فإذا بها تسقط مغشيا عليها من شدة الغيظ، لأن أحدا لم يرد عليها وقرر أهل الحارة أن ينقلوها إلي المستشفي ولم يجدوا ما يحملونها عليه سوي حمار أبي أيوب، فأسرع أحدهم إلي أبي أيوب قائلا يا أبا أيوب: لقد ذهبوا بأم عمرو على حمارك إلي المستشفي وقد لا يرجع.

فرد أبو أيوب قائلا: قولته المشهورة والتي صارت مثلا تتداوله الأجيال جيلا بعد جيل :

إذا ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار

ووردت رواية أخرى مقاربة للسابقة أن رجلاً كان دائم السخط على زوجه، وكان لا يطيقها، لكنه القدر حكم في ملازمته لها.
الطريف في الأمر أنه كان لهذا الرجل حمار يعزه، ففقده ذات يوم، ثم علم أن زوجه امتطت الحمار، وولت.

فسأله بعضهم عن حاله، فأجاب:

ذهبَ الحِمــــارُ بأمِّ عمْروٍفلا رجعت ولا رجع الحمارُ

وقيل عن هذا المثل روايات أخرى يضيق عنها المقام.

أم عمرو في عيون الشعراء

مما ورد في الأشعار ونسب لأم عمرو شعر ديك الجن:

أأترك لذة الصهباء عمدًا

لما وعدوه من لبن وخمر

حياة ثم موت ثم بعث

حديث خرافة يا أم عمرو

وهناك من ينسب الشعر لأبي نواس باختلاف البيت الأول حيث يقول:

تُعَلَّلُ بالمُنى إذ أنت حيّ

وبعد الموت من لبن وخمر

حياة ثم موت ثم بعث

حديث خرافةٍ يا أم عمرو

وهذا عمرو بن كلثوم، يتحدث عن الخمر في مطلع معلقته:

صَبَنتِ الكأس عنا أمَّ عمرو

وكان الكأس مجراها اليمينا

وما شرُّ الثلاثة أمَّ عمرو

بصاحبك الذي لا تُصبحينا

وقول هدبة بن الخشري:

سقى أم عمرو والسلام تحية

لها منك والنائي يود وينصح

أما الشَّنْفَرَى فقال أيضاً في أم عمرو:

ألا أم عمرو أجمعت فاستقلّتِ

وما ودّعتْ جيرانَها إذ تولّتِ

وأبو ذُؤيب الهُذَلي:

أبى القلب إلا أم عمرو وأصبحت

تحرّق ناري بالشكاة ونارها

وهناك عشرات الأبيات في شعر كُثيّـر والمجنون وجميل بثينة ويزيد بن الطثرية، وعمر بن أبي ربيعة، فهل عشق كل منهم امرأة تكنى أم عمرو؟

وأيضا خطاب جرير في نونيته، إذ يقول:

يا أم عَمْروٍ جزاك الله مغفِرةً

رُدي عليَّ فُؤادي كالذي كانا

وقد وردت قصة هذا البيت في رواية الجاحظ آنفاً -.

ويقول المعري:

أبى القلب إلا أم دَفْـر كما أبى

سوى أم عمرٍو موجعُ القلب هائمُ

وقبله بشّار:

جمعتِ القلبَ عندك أمَّ عمرو

وكان مطّرحًا في كل واد

وأبو فراس يخاطب من يحبها:

أجملي يا أم عمرو

زادك الله جمالا

أنا إن جدتِ بوصل

أحسن العالم حالا

كما خاطب ناصيف اليازجي أم عَمْرِه:

وما كل امرئ يا أم عمرو

بمحمود إذا هتف المنادي

والمحصلة في النهاية أن أغلب الأبيات تورد “أم عمرو” بمعنى “فلانة”، ولكن بإضافة الكنية أدبًا وتلطفًا ، من الشاعر.

زر الذهاب إلى الأعلى