مقالات وآراء

إعصار من الفتن في قضية «سد الخراب»

محمد البرغوثىمحمد البرغوثى

لا أعرف موضوعاً شغل المصريين قاطبة أكثر من قضية «سد الخراب» الإثيوبى، ولا يكاد يوجد مواطن واحد لديه أدنى اهتمام بالشأن العام إلا وشارك بالسؤال أو بالرأى فى هذا الموضوع الشائك والخطير. ومن المؤكد أن اهتمام المصريين يتصاعد يوماً بعد آخر كلما زاد التعنت الإثيوبى، وكلما اتضح أن الدول العظمى -دائمة العضوية فى مجلس الأمن- ليس لديها استعداد للتدخل الحاسم لوقف هذه الكارثة التى تمثل قضية وجود لمصر والسودان.

ولكن وسط هذا الاهتمام المحمود بشأنٍ على هذا القدر من الخطورة، يمكن لأى مراقب أن يلاحظ، بوضوح شديد، وجود كتائب إلكترونية منظَّمة تعمل وفق خطة محكمة لإحداث أكبر قدر من الضرر وإثارة نعرات قومية وإشعال المزيد من الفتن، بين المصريين بعضهم البعض من ناحية، وبين المصريين والسودانيين من ناحية أخرى.

واللافت أن كل مساهمات هذه الكتائب على «السوشيال ميديا» تدور حول عدة أهداف محددة، من بينها التشكيك فى القيادة المصرية وفى قواتنا المسلحة، وإثارة قلق المصريين على مياه النيل ودفعهم إلى الاعتقاد بأن احتجاز مياه النيل خلف السد الإثيوبى أصبح أمراً على وشك التحقق، وأن عليهم أن يستعدوا للموت جوعاً وعطشاً وفقراً، أو للبحث عن وسيلة للخروج من هذا البلد.

جانب لا يستهان به أيضاً من مساهمات هذه الكتائب المأجورة أو الحاقدة يدق طبول الحرب ويطالب بها حتى لو توقفت إثيوبيا عن استكمال بناء السد، أو استكمال الملء الثانى لخزان السد، وتذهب هذه المساهمات إلى إثارة شكوك المصريين فى قيادتهم وجيشهم، لأن القيادة السياسية لم تخرج -حتى الآن- إلى العلن للإعلان التفصيلى عن خطة الحرب، وإطلاع الشعب المصرى كله عليها، بل وأخذ رأيه فى أدق تفاصيلها!!

ويحدث يومياً أن نطالع ردوداً من مواطنين عاديين على مساهمات هذه الكتائب الإلكترونية، تشير إلى أنهم على وعى كبير بانتماء أفراد هذه العصابة الإجرامية، وعلى وعى أكبر بأنه لا توجد دولة واحدة فى العالم تدير شئونها الحيوية أو قضاياها المصيرية بهذه الشفافية الساذجة، وأن حتى أعتى وأقوى الدول تستخدم دائماً غطاء مراوغاً لتمويه مقاصدها، ولم يحدث أبداً فى التاريخ الإنسانى المكتوب، أن سمعنا عن نظام سياسى كشف عن كل أوراقه على الملأ، أو طرح خططه لحل قضاياه المصيرية للنقاش العام على المقاهى.

ولكن -وللحقيقة- فإن هذه الردود الواعية من بعض المواطنين على الكتائب الإلكترونية المأجورة يظل حضورها ضعيفاً وصوتها خافتاً وسط إعصار منظم وضجة مصنوعة باحتراف ومهارة عاليين من عصابات الخراب التى تخوض حربها الأخيرة لإغراق البلد بكامله فى مستنقع الفوضى.

ولعل حكاية الشاب المصرى الرائع «أحمد شجيع»، ابن مدينة الإسماعيلية، التى انتشرت خلال الأيام الماضية على «السوشيال ميديا»، واجتذبت عشرات الآلاف من التعليقات، تصلح لأن تكون نموذجاً لتقصير فادح نتحمل جميعاً مسئوليته. والحكاية أن هذا الشاب كان بالصدفة فى نيويورك يوم الخميس 8 يوليو الجارى، فقرر أن يذهب للوقوف أمام مقر الأمم المتحدة أثناء عقد مجلس الأمن لجلسة مناقشة قضية سد النهضة، وأن يشارك فى رفع العلم المصرى مع مصريين آخرين كان واثقاً أنه سيجدهم هناك ينظمون وقفة سلمية ترفع أعلام دولة سيتعرض شعبها لخطر ماحق إذا لم يسارع العالم بوقف بناء هذا السد، إلا وفق اتفاق دولى يمنع إثيوبيا أو غيرها من احتجاز قطرة واحدة من حصة دولتى المصب، مصر والسودان.

وما أن وصل الشاب إلى مقر الأمم المتحدة حتى فوجئ بحشد من الإثيوبيين هناك، ووجد نفسه وحيداً وسط حوالى ألف إثيوبى كانوا يهتفون وهم يرفعون لافتات تطالب بحقهم فى إدارة مواردهم المائية لإنقاذ بلادهم من الفقر والجوع، فى الوقت الذى لم يجد فيه مصرياً واحداً، على الرغم من أن الجالية المصرية فى نيويورك تقول فى كل نشراتها إن هذه المدينة وحدها تضم أكثر من 100 ألف مصرى.. والذى حدث أن الشاب المصرى فوجئ برجل إثيوبى عمره يزيد على 65 عاماً يلكمه فى ظهره، فالتفت إليه وقال له: «أنا ممكن أرد لك اللكمة وساعتها هتكون فى القبر.. لكن دينى علمنى عدم الاعتداء على رجل أكبر منى سناً.. وأنا كمصرى أحترم تعاليم دينى».

ويضيف أحمد شجيع، ابن مدينة الإسماعيلية فى فيديو سجله لتوضيح حقيقة ما حدث له: «المسئول الإثيوبى عن المظاهرة جاء واعتذر لى.. وأنا عدت إلى مكان إقامتى وحكيت لزميلى فى السكن ما حدث معى، وبكيت، ليس لأن هذا الرجل ضربنى، ولكن لأننى كنت وحدى.. ولم أجد مصرياً واحداً يشاركنى هذه الوقفة أمام مقر الأمم المتحدة». وبنبرة لا أثر فيها للتفاخر أو التباهى يقول «شجيع»: «لم أكن خائفاً وأنا أقف وحدى وسط الإثيوبيين.. فأنا من الإسماعيلية ومن قبيلة اسمها البياضية.. ممكن لوحدنا نخلص موضوع سد النهضة لو الحكومة سمحت لنا.. أنا لم أبكِ فى المظاهرة، أنا بكيت فى سكنى لأن نفسى عزّت عليّا».

ويُنهى أحمد حديثه بتوجيه سؤال للمصريين فى نيويورك: «كنتم فين أثناء الجلسة.. كنتم فين والجالية بتقول إنكم أكثر من 100 ألف؟!».

والحقيقة أن حكاية أحمد شجيع هى تلخيص دقيق لكل عناصر التقصير الذى وقعنا فيه جميعاً، فقد تركنا الساحة خالية تماماً أمام إعصار التدليس وإثارة الفتن والتخوين، وقد نجح هذا الإعصار الإجرامى حتى الآن فى خداع عدد ضخم من المواطنين، لأنهم لم يجدوا حملة وطنية عاقلة وموثوقاً بها، تتصدى لهـذه المغالطات الفاحشـة، وتنبِّه المواطنين إلى أن التهديد بحجز مياه النيل فى دول المنابع كان حاضراً وبقوة منذ أكثر من قرنين كاملين، وأنه لم يغب أبداً عن أذهان القوى الاستعمارية المتصارعـة، وأن هذا التهديد ظل يظهر فى ظروف محددة ثم يختفى لفترة قبل أن يظهر من جديد، وكأنـه سيف مسلط على رقاب دول المصب يستخدمه هذا أو ذاك لغرض سياسى أو استعمارى، أو لمجرد المكايدة والانتقام، وبدءاً من سبعينات القرن الماضى عاد هذا التهديد للظهور المستمر بضغط شديد ومتواصل من هيئات دولية ومن شركات مقاولات عملاقة تبحث -كما يقول رشدى سعيد فى مقال شهير له بالأهرام فى سبتمبر 1997- عن «فرصة تحقيق أرباح طائلة من وراء إعادة توزيع مياه النيل بين دول الحوض»!

والمثير حقاً أن هذه البديهيات التى لا يخلو منها كتاب أو مرجع واحد عن تاريخ نهر النيل، أو عن العلاقات المصرية الأفريقية، أو عن التاريخ الاستعمارى لأفريقيا، كما لم تخلُ منها أى دراسة من بين آلاف الدراسات التى نشرتها المجلات والدوريات المتخصصة عبر أكثر من خمسين عاماً، كل هذه البديهيات والحقائق الموثقة والساطعة غابت تماماً، أو تم تغييبها بقصد مريب، لإظهار النظام السياسى الحالى وكأنه المسئول الأول والأخير عن كل تداعيات هذه القضية، وقد نجحت الكتائب المسعورة فى ردم الماضى الكريه للاستعمار، وردم الحاضر المنحط لشركات الاتجار فى المياه العذبة، تحت أطنان من الضغائن السوداء والأكاذيب والمغالطات الإجرامية لتفجير الأوضاع فى مصر، ولتمهيد الطرق أمام عودة هذه القطعان المسعورة إلى المشهد السياسى المصرى.

ومثلما وقع التقصير من النخبة فى التوعية بتاريخ دق طبول حرب المياه العذبة، وخصوصاً فى الشرق الأوسط وأفريقيا والشرق الأدنى كله، إذا بنا أيضاً أمام تقصير شديد من الدولة فى استخدام «السوشيال ميديا» والاستعانة بالمصريين فى الخارج وبحملات طرْق الأبواب، لإطلاع الضمائر الحية فى العالم على عدالة قضيتنا، ولتنبيه الأمم المتحضرة إلى أن شركات الاتجار فى المياه أوشكت على تحويل أهم مصادر الحياة فى أدنى مستوياتها إلى سلعة استثمارية، وأنها نجحت فى تجنيد وشراء ذمم مسئولين وخبراء إقليميين لا يعنيهم إطلاقاً أن يموت ثلثا سكان العالم عطشاً وفقراً، طالما أنهم حجزوا لأنفسهم ولأسرهم مكاناً حصيناً بين ثلث البشر الناجين من هذه الجريمة الاستعمارية الجديدة!

زر الذهاب إلى الأعلى