مقالات وآراء

محمد البرغوثي يكتب.. دروس الحرب الأخيرة

محمد البرغوثى

منذ اللحظة الأولى التى بدأ فيها العدوان الإسرائيلى الإجرامى على أهالى حى الشيخ جراح فى القدس المحتلة، ومع بداية اعتداء جنود الاحتلال على أصحاب الأرض ومنعهم من الصلاة فى المسجد الأقصى خلال الأيام العشرة الأخيرة من شهر رمضان الماضى، والعالم كله يفهم السيناريو الذى رسمه -باقتدار فاجر- «بنيامين نتنياهو»، رئيس وزراء إسرائيل، الذى دبر المكيدة كاملة، ودفع بالأمور إلى الحافة، ليدخل حرباً، ويحقق نصراً ينقذه من مغادرة منصبه ليواجه اتهامات بالفساد قد تنتهى به إلى السجن.وقبل أيام قليلة من وقف الحرب الأخيرة على غزة، أكدت مصادر فى حزب الليكود الإسرائيلى لصحيفة «معاريف» أن «نتنياهو» يطيل أمد التصعيد حول قطاع غزة لاعتبارات سياسية ضيقة، وقالت «معاريف» نقلاً عن مستشار سياسى رفيع المستوى فى الليكود: «إن (يائيير لابيد) زعيم حزب «هناك مستقبل» يملك حالياً التفويض الرئاسى لتشكيل الحكومة.. وعلى ما يبدو فإن نتنياهو يركض إلى انتخابات خامسة ويتخذ البلاد رهينة».

كما ذهبت «معاريف» نقلاً عن مسئولين آخرين إلى أن «نتنياهو» مقتنع بأن النزاع مع حماس سيساعده على تحسين صورته، فى حين توجهت البلاد إلى الانتخابات الخامسة.

لهذا كله، كان «نتنياهو» أكثر وحشية وهو يقصف بجنون الحجر والبشر والشجر فى غزة، ثم وهو يتعمد بإجرام فاحش تدمير البنية الخدمية والاقتصادية لسكان غزة، فلم يترك لهم مستشفى أو مدرسة أو مصنعاً، وعندما فاجأته المقاومة الفلسطينية بسيل منهمر من الصواريخ الأكثر كفاءة من صواريخ حرب 2014، وأصابت مواطنيه بحالة هلع غير مسبوقة، انهال بجنون على بيوت سكان غزة وارتكب جرائم حرب يندى لها الضمير الإنسانى، فقد تعمد قتل السكان الآمنين وأزهق أرواح 248 فلسطينياً معظمهم من الأطفال والنساء.

كل هذا الخراب يرتكبه شخص لمجرد أنه لا يريد أن يغادر منصبه كرئيس للوزراء.. وكل هذه الخسائر فى الأرواح، وآلاف الضحايا من المصابين بإصابات شديدة الخطورة، وكل هذا الهدم والدمار، لكى يخرج فى نهاية الأمر مدعياً أن الحرب على غزة حققت أهدافها، وأن إسرائيل حققت نصراً كبيراً وألحقت خسائر فادحة بـ«المنظمات الإرهابية» فى غزة.. ولكنه وهو يحاول تمثيل دور المنتصر وتقديم نفسه مرة أخرى للناخب الإسرائيلى، كان العالم كله يعرف أن هذه المغامرة الإجرامية أعادت القضية الفلسطينية إلى صدارة المشهد السياسى الدولى، بعد سنوات طويلة من النسيان، وأيقظت العرب جميعاً على حقيقة كادت أن تغيب، وهى أن هذا الكيان الاستعمارى المتوحش لن يتركنا فى حالنا أبداً، ولن يلتزم أبداً بأى معاهدات سلام ولا باتفاقيات تطبيع، وأنه سيواصل قتلنا وهدم بيوتنا واغتصاب أراضينا وتخريب حياتنا كلما خطر لسياسى تافه أن يسجل نصراً وهمياً يفيده فى انتخابات مقبلة.

ولعلنا جميعاً نتذكر أن إحدى الدول العربية التى وقعت اتفاق تطبيع مع إسرائيل فى أغسطس 2020، تحت شعار «اتفاق النبى إبراهيم»، بررت هذه الخطوة المفاجئة بأنها ستوقف عمليات ضم الأراضى الفلسطينية بالقوة إلى إسرائيل وستوقف زحف المستوطنات، وجاء البيان الذى أصدرته هذه الدولة مع إسرائيل وأمريكا ليؤكد أن هذا الاختراق الدبلوماسى التاريخى سيعزز السلام فى منطقة الشرق الأوسط.

وبعد ساعات من البيان، غرد مسئول كبير فى الدولة العربية الخليجية بأن الاتفاق تضمن «إيقاف الضم الإسرائيلى لمناطق غور الأردن فى الضفة الغربية».. فما كان من «نتنياهو» إلا أن وضعه فى حرج بالغ بتصريحه الشهير: «إن مطالبة إسرائيل بالسيادة على غور الأردن لا تزال على جدول الأعمال ومجمدة فقط حالياً»!.

لا اتفاقيات إذن ولا معاهدات ولا مناشدات إنسانية ولا مواثيق دولية ستوقف هذا الوحش الصهيونى عن تخريب بلادنا، وها هو «نتنياهو» يواصل عربدته واعتداءه الإجرامى على المصلين الفلسطينيين فى المسجد الأقصى بعد ساعات من سريان الهدنة فجر يوم الجمعة الماضى، فقد انطلقت قطعانه المدججة بعتاد عسكرى رهيب لتعتقل مئات الفلسطينيين فى القدس وأراضى الحزام الأخضر، وصباح أمس الأحد اقتحمت قطعان المستوطنين فى حراسة الشرطة الإسرائيلية المسجد الأقصى واعتدت على الفلسطينيين ومنعتهم من الصلاة فى الحرم القدسى، وسمحت الشرطة لهم بتأدية طقوسهم التلمودية قبالة مصلى باب الرحمة ومسجد قبة الصخرة، وهو تحدٍ سافر آخر يتسق مع جرائم هذا الكيان الاستعمارى الذى يحتمى بغطاء سياسى وأمنى واقتصادى جبار توفره له الولايات المتحدة الأمريكية.

لا سلام إذن ولا هدنة ولا اتفاقيات ستردع هذا الوحش، أو تمنعه من مواصلة قتلنا وسفك دمائنا وهدم بيوتنا ومصانعنا وحرق حقولنا، واللغة الوحيدة التى تصلح لحماية بلادنا منه، هى لغة القوة، وقد جاءت الحرب الأخيرة على غزة لتثبت مرة أخرى أن «الشرعية الدولية» لا قيمة لها على الإطلاق، وأن محاولات إيقاظ الضمير الإنسانى ممثلاً فى المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة، أصبحت عبثاً لا طائل من ورائه، وأن طلب النجدة من الولايات المتحدة الأمريكية لوقف الاعتداءات الإسرائيلية، هو فى واقع الأمر انتحار سياسى يهددنا بالانقراض بعد التفتت، ويقضى على كل آمالنا الباقية فى الخروج الآمن من هذه المتاهة القاتلة.

وقد سبق للأستاذ محمد حسنين هيكل أن وضع أمام أعيننا وفى متناول من يريد أن يفهم، خريطة طريق شديدة الدقة والبلاغة والإحاطة، لفهم الدور الأمريكى فى الصراع العربى الإسرائيلى، أو الصراع العربى الأمريكى، عندما قال فى كتابه الرائع، «الإمبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق»: «إن الولايات المتحدة الأمريكية اختزلت سلطة الأمم المتحدة فى مجلس الأمن وحده، ثم اختزلت سلطة مجلس الأمن فى أعضائه الخمسة الدائمين، ثم اختزلت سلطة الخمسة الدائمين فى نيابتها وحدها عن الجميع بواقع القوة المفرطة».

وفى كتابه الملهم، بذل الأستاذ «هيكل» جهداً مرموقاً لإيقاظ العرب على أهم حقائق العلاقة العضوية بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.. فكلتاهما قامت على اغتصاب أرض ليست لها.. وكلتاهما قامت بإبادة السكان الأصليين.. وهو فى أكثر من موضع يرصد ضيق صدر كبار المسئولين الأمريكيين من أحاديث المسئولين العرب المتكررة عن «الحق التاريخى للشعب الفلسطينى».. كما يرصد إصرار الأمريكان على أن يبدأ أى حوار من اللحظة الراهنة بغض النظر عن أية حقوق أو مظالم.. فالمسألة ليست مسألة أمريكا أو إسرائيل أو فلسطين.. «ولكنها مسألة زمن يدعونا إلى الزحف تحت العلم الأمريكى.. حتى ننشر الحرية ونحمل البركة إلى الجميع.. علينا أن نقول لكل أعداء التوسع الأمريكى إن الحرية تليق فقط بالشعوب التى تستطيع حكم نفسها، وأما الشعوب التى لا تستطيع، فإن واجبنا المقدس أمام الله يدعونا لقيادتها».

ويعود الأستاذ هيكل إلى كتاب شهير عن «الإمبراطورية الأمريكية» لمؤلفه «ستانلى كارنوف» لينقل منه نص تقرير كتبه أحد أعضاء الكونجرس عام 1898 بعد زيارته إلى الفلبين التى احتلتها أمريكا آنذاك.. وجاء فيه نصاً: «إن القوات الأمريكية اكتسحت كل أرض ظهرت عليها حركة مقاومة، ولم تترك هناك فلبينياً واحداً إلا قتلته.. لقد قتل جنودنا كل رجل وكل امرأة وكل طفل وكل سجين أو أسير وكل مشتبه فيه ابتداءً من سن العاشرة، واعتقادهم أن الفلبينى ليس أفضل كثيراً من كلبه، وخصوصاً أن الأوامر الصادرة إليهم من قائدهم قالت لهم: لا أريد أسرى.. ولا أريد سجلات مكتوبة».

والمؤكد لمن يتابع أو يراجع حروب أمريكا الحديثة فى أفغانستان والعراق وليبيا، أو يراجع حروبها بالوكالة، أو يتعقب الفتن التى صنعتها فى كل شبر على ظهر الأرض طوال القرنين الماضيين، يدرك جيداً أن إسرائيل هى ربيبتها وذراعها الباطشة فى المنطقة.. وأن الخلاص العربى لن يتأتى إلا باستقلال الإرادة العربية استقلالاً كاملاً عن أمريكا أولاً.. ثم امتلاك كل الأسلحة اللازمة لوقف القرصان الإسرائيلى داخل حدود صارمة لا يغادرها أبداً.

 

زر الذهاب إلى الأعلى