مقالات وآراء

جناة طيبون وجرائم وحشية!

محمد البرغوثىمحمد البرغوثى
فجر يوم الجمعة الماضى، كانت معظم صفحات المواطنين على وسائل التواصل الاجتماعى، وكل مواقع الصحف، ومكبّرات الصوت فى المساجد، تتحدث عن فضل الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك، وقد نام الجميع ولم يخطر على بال أحدهم أنه سيستيقظ على جريمة مروِّعة نادرة الحدوث، بل ربما كانت الجريمة الأكثر وحشية من بين كل الجرائم الجنائية والأسرية التى حدثت فى مصر طوال العقود الماضية!

قبل لحظات من أذان فجر الجمعة، كان شاب من أهالى قرية «الغرق» بمركز إطسا فى محافظة الفيوم فى طريقه إلى المسجد للحاق بصلاة الفجر، وإذا به يشاهد أحد جيرانه واقفاً أمام «مخبز» يخصه فى حالة مريبة، فقد كانت ملابسه ملوَّثة بالدماء، وفى يده سكين ما زال يقطر دماً، وعندما اقترب منه أسرع الخباز إلى مخبزه وحاول إشعال النار فى نفسه، وخلال دقائق تجمّع عدد من المواطنين وحاولوا إنقاذ الخباز الذى أخذ يهذى بكلمات تبينوا منها أنه ذبح زوجته وأولاده.

بعض الذين حضروا الواقعة أكدوا أنهم شاهدوا مشنقة معلقة فى سقف المخبز، وفهموا أن الخباز كان يحاول الانتحار شنقاً، وعندما فشل أشعل النار فى نفسه ليتخلص من حياته، ولكنهم خلال اللحظات الأولى من محاولة السيطرة على الخباز لم يتخيلوا أبداً أنه ارتكب جريمة على هذا القدر من البشاعة، وأنه بعد أن انتهى من ذبح زوجته وأبنائه الستة غادر شقته فى طريقه إلى المخبز ليعلق نفسه فى مشنقة أعدها سراً ليتخلص من حياته بعد ارتكاب جريمته الرهيبة.

والمذهل فى هذه الجريمة أن بعض الذين يعرفون الجانى «عماد أحمد رمضان» تحدثوا لعدد من وسائل الإعلام فى فيديوهات مصوَّرة، وكلهم دون استثناء واحد أجمعوا على أنه كان إنساناً طبيعياً ولم يلحظ أحد عليه أى سلوك إجرامى، وأكدوا أنه كان إنساناً طيباً وعلى خُلق، وقالت إحدى السيدات التى تملك محلاً لبيع ملابس الأطفال إن عماد كان يشترى منها أفضل وأغلى الملابس لأطفاله، وكان إنساناً كريماً إلى أقصى حد، قبل أن يتعرّض لأزمة مالية خلال العامين الأخيرين.

المرعب كما نرى فى هذه الشهادات هو أنها تشير إلى أن هذا الجار الطيب الذى يشبهنا جميعاً تحول فى غمضة عين، ودون سبب مفهوم، إلى وحش كاسر لم يكتف مثلاً بذبح زوجته فى لحظة غضب طارئة، وإنما راح -بدم بارد- يقبض على أعناق أطفاله الستة، واحداً بعد الآخر، ولم يتركهم إلا بعد أن انتهى من ذبحهم جميعاً، ثم أغلق باب شقته خلفه، وخرج ليعلق نفسه فى مشنقة نصبها قبل تنفيذ الجريمة، ولكنه جبن عن إنهاء حياته بيديه. ومن شهادات الذين حضروا الواقعة وتحدّثوا للصحف والمواقع الخبرية، نستطيع أن نتبين بسهولة أنه أشعل النار فى المخبز أولاً ثم راح يصرخ بأعلى صوته: «أنا دبحت مراتى وعيالى كلهم»، وبعد لحظات هده التعب فجلس أمام المخبز حتى حضرت الشرطة وسلَّم نفسه دون أدنى مقاومة، وهو الأمر الذى يشير إلى أنه ترك مهمة إنهاء حياته لأجهزة العدالة ممثلة فى الشرطة والنيابة والقضاء!

إن أبشع ما فى هذه الجريمة -من وجهة نظرى- هو إصرار «عماد» على ذبح كل أفراد أسرته واحداً بعد الآخر، وأن ضميره لم يستيقظ إطلاقاً ولم يرحم حتى طفليه الصغيرين (التوأم)، ولكنه راح ينتقل من رقبة إلى أخرى حتى جزَّ سبع رقاب فى دقائق معدودة، والمثير بل المذهل أن جيرانه فى السكن لم يسمعوا صراخاً أو استغاثة أو أى حركة غير عادية تشير إلى أن مقاومة صدرت عن الضحايا، وهو الأمر الذى ينبغى أن تضعه جهات التحقيق فى اعتبارها، لأنه ليس من طبائع الأمور أبداً أن تقع جريمة على هذا القدر من البشاعة وأن تتم بنجاح غادر، إلا إذا كان الضحايا تم تخديرهم قبل ذبحهم.

إن بعض علماء النفس وخبراء الجريمة يذهبون إلى أن حالة أشبه بالسعار تنتاب الجناة عادة فى مثل هذه الجرائم، وتدفعهم إلى مواصلة القتل حتى النهاية بعد أن يشاهدوا الدم يطفر من الذبيحة الأولى، ولكن البعض الآخر يرفض هذا التفسير ويكاد يُقصره على القاتل المحترف، ويذهب إلى أن هذا النوع الذى لم يرتكب جريمة قتل قبل ذلك لا يمكنه أن يذبح سبعة أشخاص مرة واحدة وفى دقائق معدودة إلا إذا كان واقعاً تحت ضغط رهيب من قوة طاغية لا ترحم، واللافت أن مثل هذه النوعية من الجرائم المروعة التى يرتكبها أناس طبيعيون، ويستهدفون بها أسرهم وفلذات أكبادهم، تكررت مرات خلال السنوات الأخيرة، وفى كل مرة تقوم الدنيا، ثم لا تلبث أن تقعد على قناعة عجيبة بأن هؤلاء الجناة اضطروا إلى ارتكاب هذه الجرائم بسبب أزمات مادية طاحنة، وأنهم اختاروا الموت ذبحاً لأطفالهم باعتباره أرحم من تركهم لذل الفقر والاحتياج ومطاردة الدائنين!

وقبل عقد أو عقدين على الأكثر كان لدينا فى مصر كتيبة هائلة من خبراء علم النفس الجنائى، وعلم الاجتماع الجنائى، تنتشر فى كليات الآداب بالجامعات المصرية، وفى المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، وكانت هذه النوعية من الجرائم تخضع لفحص علمى دقيق يحيط بكل أبعاد الجريمة ويربطها بالمكان والزمان والسياق الاجتماعى الذى أنتجها، ولا أعرف لماذا كفَّت هذه الجهات عن متابعة أو دراسة هذا النوع من الجرائم، أو لماذا كفَّت عن نشر نتائج أبحاثها إن كانت هناك أبحاث؟!

وحتى يحدث ذلك، يبدو أننا سنظل ندور فى فراغ مطبق، وسنظل عاجزين عن إدراك الأسباب الحقيقية المنتجة لهذا النوع من الجرائم المروِّعة.. والأهم من ذلك أن المعالجات المبتسرة والسريعة لهذه الجرائم ستدعونا دائماً إلى توقع أفظع الجرائم وأكثرها غدراً ووحشية من جيراننا الطيبين، وأن قناع الطيبة الذى يغطى حقيقتنا قد يتكشف فجأة ودون مقدمات، ودون أسباب، عن قاتل محترف، ربما كان يذبح زوجته وأولاده بدم بارد ونحن عنه غافلون، أو منشغلون بأورادنا وابتهالاتنا إلى الله فى الأيام المباركة!

ولكن قبل ذلك وبعده، ستظل هناك فى قرية «الغرق» بالفيوم كل أسباب الجريمة، تنتظر من يبحث عنها ويكتشفها، فقد كانت هذه القرية قبل حوالى عشر سنوات من الآن واحدة من أغنى القرى المصرية، لأن معظم سكانها ينتمون بالأصول إلى قبائل وعشائر دولة ليبيا، وكانت السيارات التى تحمل أبناء القرية وتجتاز بهم الصحراء الغربية، لا تكف عن الذهاب والإياب محملة بكل أنواع السلع الواردة من ليبيا، حتى إن كل قرى إطسا اعتادت أن تشترى معظم احتياجاتها من الأجهزة الكهربائية وأطقم الصينى الفاخر والأقمشة من سوق ليبيا فى قرية الغرق. وقد أدى الثراء الناتج عن هذه التجارة إلى غلاء أسعار أراضى البناء والأراضى الزراعية فى القرية، حتى وصل سعر قيراط الأرض الزراعية إلى 100 ألف جنيه عام 2010 بسبب الطلب المتزايد والأموال المتدفقة فى أيدى الجميع. وبعد انهيار دولة ليبيا، بارت تجارة قرية الغرق، ودخلت منذ سنوات، ولأول مرة فى تاريخها، إلى قائمة القرى المصدِّرة للعمالة المهاجرة فى مراكب الموت، بحثاً عن فرص عمل وعن مصادر رزق أصبح العثور عليها فى القرية من المستحيلات!

وفى سياق كهذا، ليس من المستبعد أبداً أن يتورط البعض فى تجارة غير مشروعة، أو ينساق البعض خلف لوثة البحث عن آثار، وهى لوثة باتت ملحوظة فى العديد من قرى ومدن محافظات مصر التى تمتلك تاريخاً قديماً، والمثير فى كل الجرائم المماثلة لجريمة قرية الغرق -مثل جريمة ميت سلسيل- أن هناك من يؤمنون بأنها أقرب ما تكون إلى أفعال «مافيا تجارة الآثار» أو أباطرة تجار المخدرات، الذين تتسم جرائمهم بهذه البشاعة وبكل هذا الغموض الذى يكتنفها من أولها إلى آخرها.. مروراً بتعليق الجريمة كاملة فى رقبة أحد الضحايا، الذى يختار الصمت ويختار الاعتراف، ليتخلص من عذابه بعد أن خسر كل شىء فى لحظة غادرة!

زر الذهاب إلى الأعلى