مقالات وآراء

وباء مُدَمِّر.. وجموع مستهترة

محمد البرغوثى

محمد البرغوثى

لا أعتقد أن هناك دولة واحدة فى العالم تمكنت من الإحصاء الدقيق لوفيات كورونا، منذ أواخر 2019 وحتى الآن، وإذا كانت المنظومات الصحية فى أغنى دول العالم عجزت عن إتاحة الرعاية الطبية داخل المستشفيات لكل مواطنيها المصابين، فواقع الحال الذى نعرفه جيداً أن المنظومة الصحية فى مصر لم تتمكن من استيعاب الأعداد الكبيرة للمصابين، وخصوصاً فى شهور ذروة انتشار الوباء، وبالتالى لم تدخل كل الإصابات والوفيات ضمن الإحصاء الرسمى.

ولأنه لا توجد أسرة أو عائلة واحدة فى مصر لم تمر بتجربة إصابة أحد أفرادها، فقد أصبحنا جميعاً نعرف أن استيعاب كل المصابين بهذا الفيروس اللعين داخل المستشفيات كان وما زال من المستحيلات، ولهذا لجأت الغالبية العظمى من الأسر إلى عزل مصابيها داخل البيوت وتوفير العلاج لهم والمتابعة مع طبيب أو أكثر.. والملاحظ -فى حدود خبرتى الشخصية على الأقل- أن الوفيات بين مرضى الرعاية المنزلية لا تقل عن الوفيات بين المرضى المعزولين فى المستشفيات، ولكن لم يتم إحصاؤها ضمن أعداد الوفيات.

والحال كذلك، كان أهم إنجاز للحكومة، هو بذل جهد كبير لتوعية المواطنين بالإجراءات الاحترازية، والاهتمام المتواصل بتعقيم أماكن العمل، وتشديد إجراءات مراقبة أماكن التجمعات فى المقاهى والنوادى والمطاعم والأسواق، وإلزام الجميع وخصوصاً فى المواصلات العامة، بارتداء الكمامات والحرص على التباعد، وتغريم سائقى باصات النقل الجماعى فى حالة تحميل أعداد أكثر من المصرح بها.

وقبل الموجة الثالثة من كورونا التى نعيش تحت ضرباتها الموجعة الآن، امتدت رقابة أجهزة الدولة الصارمة إلى قاعات الأفراح فى العاصمة ومدن الأقاليم، وكان واضحاً أن الوباء بدأ فى التراجع بفضل هذه الرقابة، ولكننا قبل شهور صحونا على عودة الحياة إلى طبيعتها الفوضوية فى كل أماكن التجمعات بمصر، وهو الأمر الذى تسبّب فى هجمة مرتدة، عنيفة وواسعة الانتشار، للوباء فى كل المحافظات دون استثناء.

وغياب الرقابة الصارمة، والتهاون فى اتخاذ الإجراءات الوقائية، والانفلات «الشعبوى» المستهتر، أصبحت من العلم العام لكل من لديه نظر، ولا تحتاج إلى أدلة لإثباتها، وتكفى جولة واحدة فى أى حى من الأحياء التى تشتهر بمطاعمها ومقاهيها، أو فى أى مدينة تنتشر بها العديد من قاعات الأفراح ودور المناسبات، لأن تصيبنا بالدهشة، كما أن نظرة عابرة على وسائل النقل الجماعى تشير إلى أننا أمام تصرفات شديدة الاستهتار، فقد عادت الأفراح بكثافتها الشديدة إلى سيرتها الأولى، وامتلأت وسائل النقل الجماعى بركاب متكدسين فى مساحات ضيقة دون ارتداء كمامات، وانتهز مئات الآلاف الإجازة الطويلة من الخميس إلى الاثنين فى التكدس بالمقاهى التى لجأ أصحابها إلى فرش الطاولات والكراسى و«الشيش» على الأرصفة الواقعة أمامها!

والغريب أن كل هذا يحدث بالتزامن مع النشر المكثف على وسائل التواصل الاجتماعى لأخبار الوفيات بكورونا، ولا يكاد يوم واحد يمر دون أن يطالع كل إنسان عدة منشورات عن وفيات أناس يعرفهم أو يعرف أحداً من أقاربهم أو كانوا أصدقاء على صفحته.. والمذهل أن غالبية الذين استهانوا بالإجراءات الاحترازية هم أنفسهم الذين يقضون أوقاتاً طويلة على «الفيس بوك» وهم جلوس فى المقاهى، يكتبون مشاطرات التعزية فى ضحايا الوباء، ثم يعودون إلى ما هم فيه، وكأن ما يحدث لا يخصهم على الإطلاق.

أما الأغرب من كل هذا، فهو أن جهات الضبط بدورها، بدت خلال الشهور الماضية وكأنها استسلمت تماماً لهذه العشوائية الجنونية فى التعامل مع كارثة على هذا القدر من الضخامة، فوسائل النقل الجماعى تمر بالآلاف أمام أعين رجال شرطة المرور، وهى مكدسة بركاب لا يضع معظمهم كمامات على وجهه، والمقاهى والكافيتريات كاملة العدد طيلة الشهور الماضية، وإجراءات التباعد غائبة تماماً، ورجال شرطة المرافق وموظفو المحليات يتجولون على مقربة منها وكأن الأمر لا يعنيهم ولا يدخل فى اختصاصهم.

والنتيجة التى وصلنا إليها هى ما نعرفه الآن عن الانتشار الواسع لهذا الوباء الذى دخل كل البيوت تقريباً، وقضى على الآلاف من كل الأعمار والفئات والشرائح دون استثناء، وإذا كانت وزارة الصحة فى بياناتها الرسمية ما زالت تصر على أن أعداد الإصابات زادت قليلاً على الألف حالة يومياً، فإن خبرة كل منا المباشرة تشير إلى أن الأعداد اليومية ربما كانت عشرين ضعف الأرقام الرسمية، فهناك قرى بكاملها فى كل محافظات مصر تحولت إلى بؤر كارثية.. وهناك عزب وكفور ونجوع تحولت بيوتها إلى معسكرات عزل لا يدخلها أحد ولا يخرج منها غير نعوش المتوفين.

ما العمل إذن؟.. هل هناك طريقة حاسمة لمواجهة هذا الوباء بالطرق العلمية السليمة؟!!.. إن الحل الأقرب والسهل هو العودة إلى الحظر الجزئى أو الكامل.. ولكننا نعرف أنه حل موجع لم تحتمله أغنى دول العالم، وعندما فكرت الحكومة الألمانية قبل أسابيع فى فرض حظر تجول وإغلاق كل أماكن العمل فى بعض ولاياتها الموبوءة، خرج المواطنون الألمان فى مظاهرات احتجاجية، لأن الحظر أصبح فوق احتمالهم اقتصادياً، والحقيقة أنه أصبح فوق احتمال الغالبية العظمى من المواطنين فى أرجاء العالم، فمعظم الشركات العملاقة لجأت -كعادتها المنحطة- إلى تسريح مئات الملايين من الموظفين والعمال، وخفّضت أجور كل موظفيها، وتركتهم نهباً للفقر والاحتياج دون رحمة.. ولم يعد هناك أحد من هذه الغالبية يستطيع أن يحتمل مزيداً من الفقر أو التبطل.

وإذا أضفنا إلى ذلك أن الحظر الجزئى أو الإغلاق الكلى يؤدى إلى توقف دورة الاقتصاد وإلى كساد رهيب، وإلى تراجع السيولة النقدية فى كل الأنشطة، وإلى مزيد من البطالة ومشاعر الاغتراب وتوليد طاقة عنف جبارة، لأدركنا أننا أمام حل مؤلم، قد يؤدى إلى نتائج كارثية ربما تزيد خطورتها عن خطورة الوباء ذاته.

ولهذا ينبغى أن نفكر فى حل آخر أكثر نفعاً للناس وللشركات وللدولة.. حل يوفر أقصى درجات الحماية من عدوى الوباء، ولكنه لا يوف دوران عجلة الاقتصاد.. وليس هناك حل يحقق طرفى هذه المعادلة غير العودة إلى تطبيق أقصى درجات الإجراءات الاحترازية.. ولعل أهم هذه الإجراءات هو إلزام وسائل النقل الجماعى بتحميل الأعداد المصرح بها فقط، وإلزام كل الركاب باستخدام الكمامات وعدم السماح لمخلوق واحد بدخول مركبة أو باص أو مترو إذا لم يكن يضع الكمامة على وجهه وفى مكانها الصحيح على الأنف والفم.

أما الإجراء الآخر الذى ينبغى اتخاذه فوراً فهو المنع التام لإقامة سرادقات العزاء فى الريف المصرى، فقد كثرت حالات الوفيات بفيروس كورونا، ورغم ذلك ما زالت كل عائلة تحرص على إقامة عزاء كبير يحييه مقرئ معروف، وإذا كان من الصعب على أجهزة الضبط إغلاق هذه السرادقات ودور المناسبات فينبغى إلزام نقابة القراء بعدم إحياء أعضائها للمآتم، وفرض غرامات باهظة على كل مقرئ يتورط فى هذا الاستهتار الإجرامى، سواء كان مسجلاً أو غير مسجل فى نقابة القراء.

بقيت المقاهى والكافيتريات التى انتشرت كالوباء فى كل مكان، والحقيقة التى ينبغى أن تُقال الآن ودون مواربة، أنها تحولت خلال الشهور الماضية إلى «سبوبة» ضخمة لبعض المكلفين بالتفتيش عليها، وأصبحت مخالفات هذه الأماكن تمثل مورداً جديداً للإكراميات والرشاوى، مقابل غض البصر عنها، والسماح لها بالعمل ليلاً ونهاراً، دون اتباع أدنى إجراء احترازى.

صحيح أننا صحونا خلال الأيام الماضية على غلق وتشميع بعض الكافيتريات والمطاعم المملوكة لأشخاص ظنوا أنهم فوق القانون، ولكن الصحيح أيضاً أن هناك مئات وربما آلاف المقاهى والكافيتريات التى ظلت حتى الآن بمنأى عن أى حملة تفتيش حقيقية.. ولم يعد الأمر يحتمل تركها تعمل، أو ترك القائمين على مراقبتها وإلزامها بالإجراءات الاحترازية يتقاسمون المنافع مع أصحابها.. وآن لكل هذا الاستهتار الإجرامى أن يتوقف فوراً، قبل أن نفيق على كارثة وبائية تفجعنا جميعاً، وخصوصاً أن أنباء الفيروس الهندى الأكثر فتكاً يتردد صداها المرعب فى كل مكان على وجه الأرض.. وقانا الله وإياكم من آلامه وفواجعه المدمرة.

زر الذهاب إلى الأعلى