مقالات وآراء

نكبة الثراء السهل.. وجرائم «كسر القلوب»

محمد البرغوثي

لم أشعر فى حياتى بالأثر المدمر للقهر، مثلما شعرت يوم السبت الماضى – 24 أبريل 2021 – عندما استيقظت على خبر وفاة الطيار أشرف أبواليسر، الذى فقد وظيفته تماماً وسحبت منه هيئة الطيران المدنى رخصته مدى الحياة، بعد أن نشر الممثل محمد رمضان فى أكتوبر 2020 فيديو كليب يظهر فيه مؤدياً لأغنية تافهة يتباهى فيها بأنه «لا يتم تفتيشه فى المطار»، ويبدو «رمضان» فى المشاهد المصوّرة وهو يغادر مقعده كراكب ويتوجه إلى كابينة الطائرة، ويجلس إلى جوار كابتن الطائرة أشرف أبواليسر بعد أن قام مساعد الطيار بإخلاء موقعه، ونسمع مكبر الصوت الداخلى وهو يعلن أن الكابتن محمد رمضان هو من يقود الطائرة.

آنذاك، انقلبت الدنيا: محامٍ معروف بكثرة البلاغات التى يقدمها للنيابة، يتقدم ببلاغ للنائب العام ضد الممثل والطيار معاً، ويقول فى دعواه إن «الفيديو» الذى نشره الممثل أساء إلى سمعة البلاد وأظهر مصر فى صورة الدولة التى تستخف بركاب طائراتها وتعرّض حياتهم للخطر، واتهم رمضان بأنه زاول مهنة قيادة طائرة دون الحصول على ترخيص من الجهات المختصة، واتهم أشرف أبواليسر بأنه سهّل لرمضان واشترك معه فى ارتكاب الجرائم السابقة.

ومع انفجار الواقعة على السوشيال ميديا والفضائيات والصحف، كان واضحاً جداً أننا أمام مشهد عبثى تحول إلى قضية خطيرة، وأمام هزل سخيف أصبح جَدًّا يستحق المساءلة واتخاذ قرارات سريعة حمايةً لسمعة الطيران المدنى المصرى من انهيار تصنيفه فى مؤشر الأمان الذى تصدره منظمة «الإياتا» الدولية بشكل دورى. فكان أن أصدرت هيئة الطيران المدنى قرارها الرهيب بإيقاف الطيار أشرف أبواليسر ومنعه مدى الحياة من مزاولة مهنته. وقد اتضح أثناء تداول وقائع القضية فى الفضائيات أن الممثل محمد رمضان سارع بطمأنة الطيار ووعده بالتدخل لدى جهات مختصة للتراجع عن القرار أو تخفيفه بعقوبة تعيده إلى مزاولة مهنته بعد عام أو عامين على الأكثر، كما وعده بتوفير فرصة عمل له فى إحدى دول الخليج بأضعاف راتبه، ولكن سحب رخصة مزاولة المهنة مدى الحياة من الكابتن أشرف أطاح بوعود الممثل كما أطاح بتعهداته بأن يعوّض الطيار من ماله الخاص تعويضاً يوفر له حياة كريمة.. وانتهى الأمر بالممثل إلى خوض معركة التقاضى، على اعتبار أن القضاء هو الجهة الأكثر عدلاً فى احتساب قيمة التعويض.. وعندما أصدرت المحكمة الاقتصادية بالقاهرة حكمها قبل أسبوعين بتعويض الطيار بمبلغ 6 ملايين جنيه يدفعها محمد رمضان، تصورنا أن القضية على وشك الانتهاء.. ولكن رمضان سارع باستئناف الحكم، ثم ظهر فى اليوم ذاته وهو يلهو بنثر حزمة أوراق من عملة الدولار فى الهواء، بما يشير إلى أنه رغم ثرائه الفاحش ورغم لعبه بالدولارات لن يدفع أموالاً بسهولة للطيار المنكوب، الذى ظهر فى فيديو وقد هَزّه المرض وكسره القهر، ولكنه كان يتحامل على نفسه بصعوبة بالغة ليبدو متماسكاً وراضياً بقضاء المحكمة الاقتصادية.

ومن يتأمل الحكاية بكل تفاصيلها، يسهل عليه إدراك المغالاة الرهيبة فى كل مراحلها، فهيئة الطيران المدنى تعلم جيداً أن الطائرة كانت مستأجرة لحساب الممثل، وأن هذه الرحلات الخاصة التى تتم يومياً فى العالم كله، تقع فيها أمور كثيرة لا تقرها معايير السلامة المهنية، وتوثيق العبث الذى ارتكبه محمد رمضان بتسهيل ومشاركة من الطيار الراحل، ثم نشره على الملأ، كان هو الشىء الوحيد الإضافى فى هذه الأمور المعلومة للكافة، ورغم ذلك سارعت هيئة الطيران إلى إصدار حكمها شديد القسوة على الطيار وقضت عليه بعدم مزاولة المهنة مدى الحياة.

والمحامى الذى اشتهر بالإفراط الشديد فى رفع الدعاوى القضائية، يعرف جيداً أن هذه الواقعة لا تستأهل كل هذا الكلام الخطير عن تعريض سمعة مصر للخطر، وعن تصوير مصر باعتبارها دولة تستخف بأرواح ركاب طائراتها.. والممثل الفاحش الثراء الذى يملك المليارات، ويتعاقد على أعمال بعشرات الملايين، وعلى إعلانات مع شركات عالمية وصل ما تقاضاه منها إلى أكثر من 50 مليون دولار.. هذا الممثل الذى كان مُعدماً قبل سنوات قليلة، ثم هطلت عليه ثروات فاحشة، كان بإمكانه أن يدفع تعويضاً لائقاً للطيار يوفر له حياة كريمة، ويصونه وأسرته من مذلة الاحتياج، ولكنه قرر أن يكايده وأن يوغل فى القسوة والجبروت، وحتى عندما رآه مرمياً فى المستشفى وقد زالت عنه نعمة الصحة وأذله المرض، لم تأخذه به شفقة.. وتركه يعانى حتى الموت، رغم أن التعويض الذى قضت به المحكمة لا يمثل غير مبلغ شديد الضآلة بالنسبة للممثل «الذى لا يرحم»!

قبل سنوات قليلة ظهر البروفيسور العظيم مجدى يعقوب مع الأستاذة لميس الحديدى فى لقاء تليفزيونى، كان كل ما فيه طيباً وممتعاً، ولكن أهم ما فيه هو حديث الدكتور يعقوب عن مرض خطير تم رصده وتوثيقه عالمياً، هو «متلازمة القلب المكسور»، وشرح «يعقوب» هذه المتلازمة بأنها حالة تحدث لبعض الناس بسبب الحزن الشديد، وتؤدى إلى ضعف شديد لأجزاء من القلب، وتحديداً لعضلة القلب التى تبدو تحت المجهر وكأنها تعرضت للكسر.. وقال العالم والجراح الكبير إن استهانة البعض بكلمة قاسية أو قرار قاسٍ تكون سبباً فى وفاة إنسان متأثراً بانكسار قلبه.

ومع إعلان خبر وفاة الطيار أشرف أبواليسر، لم يخطئ آلاف المواطنين الذين تداولوا الخبر على صفحاتهم فى الحديث عن أنه مات قهراً وكمداً.. أو تعرض لكسر خاطره.. وأنه ظل يعانى من القهر والمكايدة وهو يرى شخصاً دمر حياته يواصل تجبّره دون أدنى احترام لمشاعره أو أدنى إحساس بالذنب تجاهه أو تجاه أسرته التى فقدت كل مصادر سترها وأمانها فى ضربة واحدة عبثية ومنحطة.. أما الأكثر غرابة فى كل ما حدث، فهو أن وسائل الإعلام ظلت تنتظر رد فعل الممثل محمد رمضان على خبر رحيل الطيار، فإذا به يضع منشوراً على صفحته بصورته، يقول فيه: (الحمد لله كما ينبغى لجلال وجهك وعظيم سلطانك، مسلسل «موسى» تريند رقم واحد على يوتيوب.. ثقة فى الله نجاح)، وإذا بآلاف التعليقات تنهال عليه بأقسى عبارات الشتم المقترنة بالدعاء عليه بسوء العاقبة.. ثم إذا بآلاف ينشرون نعى الطيار الراحل بصورته فى التعليق على المنشور، وهو الأمر الذى اضطره بعد أقل من ساعة واحدة إلى نشر «بوست» على صفحته قال فيه: «الطيار أشرف أبواليسر فى ذمة الله. ربنا يرحمه برحمته التى وسعت كل شىء ويسكنه فسيح جناته ويصبّر كل أهله وحبايبه».. وحتى فجر الأحد 25 أبريل، ظلت التعليقات التى تجاوزت 34 ألف تعليق تدور حول: «يقتل القتيل ويمشى فى جنازته»!

إنها دراما أيامنا القاسية.. أيامنا التى أصبح فيها «منكوبو الثراء أكثر ضياعاً وتوحشاً من منكوبى الفقر»، وتحول فيها «الشبع بعد جوع» إلى مكايدة رخيصة وتجبّر لا يرحم، وعناد يدمر فى طريقه رجلاً قتله قهر الرجال.. وممثلاً موهوباً استغل موهبته فى المزيد من تلويث أيامنا بالقبح والقسوة والانفلات والوحشية غير المبررة.

ولهذا لا نملك إلا أن نردد فى هذه الأيام دعاء رسولنا الكريم: «اللهم إنى أعوذ بك من الهَمّ والحزن.. وأعوذ بك من غَلَبة الدين وقهر الرجال»!

زر الذهاب إلى الأعلى