مقالات وآراء

الوحش الرأسمالي يبتلع مياه سد النهضة

 

بقلم.. محمد البرغوثي

دائماً وأبداً، ينتهى الرهان على الولايات المتحدة الأمريكية فى كل القضايا الإقليمية بخسائر رهيبة لكل الأطراف المتنازعة.. ومؤخراً جاء بيان الخارجية الأمريكية حول سد النهضة الإثيوبى على النيل الأزرق ليؤكد – للمرة الألف – أن الحضور الأمريكى فى هذا الملف الخطير لم يهدف يوماً، ولن يهدف أبداً، إلى حل النزاع بطريقة تخدم مصالح الدول المتنازعة، ولكنه يهدف بالأساس إلى إدارة الصراع حول مياه الأنهار لصالح الوحش الرأسمالى بشركاته العملاقة التى استخدمت أحط الوسائل وأنفقت مئات الملايين من الدولارات خلال الثلاثين عاماً الأخيرة، لخلق الصراع أولاً بين دول حوض النيل، ثم التدخل لإدارة الصراع، وصولاً إلى فرض حل على الجميع تتحول معه المياه العذبة من مورد طبيعى مجانى لكل البشر، إلى سلعة تُباع وتُشترى وتحقق فوائض مالية، ستكون أضخم من الفوائض المالية التى حققها البترول.

وتاريخ الولايات المتحدة الأمريكية مع خلق النزاع بين إثيوبيا والسودان ومصر حول مياه النيل الأزرق، ليس خافياً على كل خبراء هذا الملف، ومن يراجع المقالات التى نشرها أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية الراحل الدكتور رشدى سعيد فى «الأهرام» ومجلتىْ «الهلال» و«وجهات نظر»، بدءاً من منتصف تسعينات القرن الماضى، ثم أعاد نشر معظمها فى كتابه «مصر المستقبل» الصادر عن دار الهلال عام 2004، سيكتشف أن أمريكا تحديداً كان لها السبق فى استخدام مياه النيل الأزرق للضغط على الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وإرغامه على التخلى عن اتجاهاته السياسية المعادية لأمريكا، ومع أوائل الستينات من القرن الماضى «أوفدت الولايات المتحدة بعثة من خبرائها لدراسة منابع النيل بإثيوبيا واقتراح المشروعات المناسبة للاستفادة من مياه هذه المنابع، ولم تكن إثيوبيا فى ذلك الوقت أو فيما تلا ذلك من أوقات، بحاجة إلى بناء السدود على النيل الأزرق بغرض الزراعة، فليس حول هذا النهر – داخل إثيوبيا – أراضٍ كثيرة صالحة للزراعة»، ولكن الدراسة الأمريكية تمت لأن الغرض منها – كما يؤكد رشدى سعيد – لم يكن خدمة إثيوبيا قدر ما كان توصيل رسالة إلى «مصر الستينات» بأن الإضرار بها سهل، وأن حياتها مرهونة بمن يحكمون منابع النيل!

والذى حدث بعد ذلك يعرفه كل خبراء هذا الملف دون استثناء واحد، فقد رحل عبدالناصر، وجاء أنور السادات ليضع 99٪ من أوراق اللعب فى كل الملفات فى أيدى أمريكا، وتطوّع بطرد الخبراء السوفيت، وأدار دفة مصر فى اتجاه أمريكا التى قامت على الفور بطىّ أوراق خبرائها وبعثاتها إلى إثيوبيا حتى إشعار آخر، وصرفت النظر عن كل الرخاء الذى بشّرت به إثيوبيا، وكان أغرب ما حدث آنذاك هو أن «أديس أبابا» انضمت إلى المعسكر الشرقى، فى الوقت الذى انضمت فيه مصر إلى المعسكر الغربى، فلجأ الاتحاد السوفيتى – خلال سبعينات القرن العشرين – إلى اللعبة الأمريكية نفسها، حيث قام باستخدام ورقة مياه النيل الأزرق للضغط على مصر التى تحالفت مع أمريكا، وقام «منجستو هيلا ماريام» إمبراطور إثيوبيا الشيوعى باستقدام خبراء الاتحاد السوفيتى لدراسة بناء السدود على منابع النيل الأزرق، ولكن الرئيس أنور السادات قام على الفور بتصعيد الخلاف إلى حد التهديد صراحةً بالحرب لهدم أى سد كبير تقيمه إثيوبيا على منابع النهر.

ومع بداية تسعينات القرن الماضى، وانهيار الاتحاد السوفيتى وانتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين الغربى والشرقى، برزت على الساحة العالمية قوة جديدة هى الشركات العملاقة عابرة الجنسية، التى انتهت – آنذاك – من استثمار معظم موارد باطن الأرض وظلت فى حالة نهم إجرامى لاكتشاف موارد جديدة تصلح للاستثمار، وإذا بها تعثر فى مياه الأنهار العذبة على ضالتها، فتخصص مئات الملايين من الدولارات لشراء ذمم سياسيين وخبراء وفنيين فى معاهد أبحاث عملاقة، راحوا أولاً يراكمون أطناناً من الأوراق التى تتحدث عن ندرة المياه العذبة، وعن أن المياه ستكون السبب الأول لاندلاع الحروب بين دول المنابع ودول المصبات ودول المرور أيضاً، ثم تراكمت الدراسات المريبة واللحوحة حول مظاهر الهدر الذى يتعرض له هذا المورد الطبيعى الغالى الذى لا يمكن للحياة أن تستمر بدونه، وأن الإنسانية كلها مهددة بالعطش والجفاف إذا لم يتم التدخل بأقصى سرعة لتسليع هذا المورد وإخضاعه لإدارة شركات متخصصة تمتلك كفاءة استثماره والحفاظ عليه من الهدر. ومن يتعقب التمويل الضخم الذى أتاحه البنك الدولى ومنظمة التجارة العالمية والمؤسسات السياسية والاقتصادية الرأسمالية (مثل مؤتمر دافوس)، للدراسات التى كان كل هدفها إثبات فشل الحكومات فى إدارة ملف المياه، سيدرك على الفور أن «تحويل المياه العذبة من سلعة مجانية لكل البشر إلى سلعة تجارية تُباع وتُشترى»، هو الهدف الوحيد من كل هذه الضجة المثارة منذ عشر سنوات حول ملف سد النهضة الإثيوبى.

ولإخفاء هذا الهدف مؤقتاً، لجأت إثيوبيا منذ التسعينات من القرن الماضى إلى الحديث المكثف حول حاجتها لمياه النيل الأزرق فى الزراعة، ولكن عدم صلاحية أراضى حوض هذا النيل لأى زراعة دفعها إلى اختلاق حجة بناء سد عملاق على النيل الأزرق لتوليد الكهرباء، بهدف استخدامها فى التنمية المحلية أولاً، ثم تصدير الفائض منها إلى دول الجوار، والمثير فى الأمر كله أن الاهتمام ببناء سدود على النيل الأزرق لم يكن مطلباً إثيوبياً من الأساس، لأنها لم تكن فى أى وقت، ولن تكون أبداً، فى حاجة إلى حجز أو استثمار مياه هذا النهر تحديداً، لأنها تملك 11 نهراً آخر تجرى فى أراضيها، وتعوم فوق خزان مياه جوفى متجدد يكفيها لمئات السنين، وتنهمر عليها أمطار كثيفة تجعل منها واحدة من أغنى دول العالم امتلاكاً للمياه.. وهناك إجماع من كل خبراء العالم فى ملف المياه أن مشكلة إثيوبيا الحقيقية تنبع من أنها «نافورة مياه» هادرة تعمل دون ضابط، وتحيل أرضها إلى مستنقع يحتاج إلى معالجات علمية لزراعته وتنميته، بدلاً من الخضوع لضغوط الوحش الرأسمالى الذى تشير كل الأدلة إلى أنه يؤجج الصراع حول موارد المياه لاختطافها والاتجار فيها لصالح شركاته أولاً وأخيراً.. وأن إثيوبيا ذاتها التى ستحرم مصر من موردها الوحيد للمياه العذبة، لن تحقق أدنى استفادة محلية لشعبها.

ومؤخراً، كشفت إثيوبيا عن هدفها الأساسى من بناء سد النهضة، وأصبح الحديث عن حقها فى حجز مياه النيل الأزرق باعتباره مورداً طبيعياً يخصها وحدها، مسموعاً وصاخباً، دون أدنى اعتبار للأعراف والقوانين الدولية الحاكمة لتوزيع مياه الأنهار العابرة فى أكثر من دولة، وتعرف إثيوبيا جيداً أن هذه الأعراف والقوانين تلجأ إلى حساب كل المصادر المائية المتاحة لكل دولة على حدة، وأنه لا يحق أبداً لدولة – لمجرد أنها مكان المنبع – أن تحتجز قطرة واحدة من المياه إذا ثبت أنها تملك مصادر أخرى للمياه، ثم إذا ثبت أن دولة المصب لا تملك أى مصادر أخرى للمياه تعوّضها عن احتجاز ما يصلها من مياه من المورد المراد حجزه، والثابت لكل خبراء العالم أن إثيوبيا ليست فى حاجة إلى احتجاز مياه النيل الأزرق، وأن مصر بدون هذا المورد ستتعرض لكارثة تهدد وجودها ذاته.. ورغم ذلك بلغ التعنت الإثيوبى حداً لا يمكن احتماله، وهو ما دفع الرئيس السيسى إلى التلويح بالحرب دفاعاً عن حق مصر فى الوجود ودفعاً لخراب ماحق ومدمر إذا تم حجز مياه النيل الأزرق.

وفى قلب هذا التفاعل الخطر دخلت أمريكا إلى حلبة الصراع وكشفت القناع عن وجهها الصريح.. وإذا بوزير خارجيتها يحاول تجريد مصر والسودان من اللجوء إلى الخيار العسكرى دفاعاً عن وجودهما، ويعيد أطراف النزاع إلى بداية طريق التفاوض حتى تنتهى إثيوبيا من الملء الثانى والثالث لخزان سد النهضة، ويتحول إلى «قنبلة مائية» تفرض على الجميع الخضوع لقوى السوق والاتفاق جبراً على أثمان بيع وشراء المياه من هذا البنك العملاق الذى سيتحول بالتدريج إلى عدة بنوك تحتجز المياه للاتجار فيها وتحقيق فوائض مالية سيذهب معظمها إلى الوحش الرأسمالى، وليس إلى إثيوبيا كما يتصور بعض قادتها!

زر الذهاب إلى الأعلى