كتاب جديد لكلثم عبد الله “تعاقد لا تقاعد”: بيان وجودي لإعادة اغتنام العمر الثالث

سامي زغدان ـ القاهرة
كأنها تنتشل قطعة ذهبية من قاع نهر الزمن، وتعيد صقلها لتلمع من جديد وهي تقول : لا تطلبوا من الشمعة أن تنطفئ لأن الساعة بلغت الحادية عشرة!”.
هكذا تقدم الكاتبة الإماراتية “كلثم عبد الله” كتابها الجديد “تعاقد لا تقاعد”. إنه ليس كتابا يُقرأ ويوضع على الرف، بل هو “عقد وجودي” نوقشت بنوده على مائدة الروح، وشُرٌعَت مواده في محكمة الحياة.
يأتي هذا الإصدار ليسائل فكرة راسخة في اللاوعي الجمعي: لماذا نُجيد رسم منحنيات الصعود في حياتنا، ثم نسلم بخط مستقيم أفقي يعقب الذروة، وكأنما الحياة قمة واحدة لا تُعقبها قمم؟
بعد رحلتها التأملية في “بيني وبيني” حيث حفرت في دهاليز الذات، تأتي “كلثم عبد الله” في هذا الكتاب لتوسّع دائرة الحوار من “بيني وبيني” إلى “بيني والعالم”. إنها تستبدل سؤال “من أنا؟” بسؤال أكثر إشراقًا وتحديًا: “ماذا أستطيع أن أكون؟”.
الكتاب هو استراتيجية وجودية لتحويل “فائض الخبرة” و”رأس المال الوجودي” المتراكم على مدى عقود، إلى مشروع شخصي جديد.
إنه يدعونا لا لـ “شغل وقت الفراغ”، بل لـ “استعمار الزمن” بمشاريع تكون الذات فيها هي المستثمر والمنتج والمستفيد.

يبدو هذا العمل تتويجًا طبيعيًا لحلقات متصلة في مشروع “كلثم عبد الله” الأدبي والفكري. فإذا كان كتابها “أنسنة الماء” قد منح الجماد روحًا، و”وحش المقبرة” قد سلب من الموت فرائسه ،فإن “تعاقد لا تقاعد” يأتي لـ “أنسنة الشيخوخة”، لينزع عنها غبار العجز والهامشية، ويهديها مرحلة إنسانية كريمة، مليئة بالعطاء والجمال والإنتاج.
إنها ثلاثية متكاملة: أنسنةُ العالم الخارجي، ثم مواجهة الفناء، وأخيرا تأهيل المسيرة نفسها لتحقيق خلودٍ معنوي، كاشفة النقاب عن رؤية ثورية لمرحلة ما بعد التقاعد.
الكاتبة الإماراتية “كلثم عبد الله تقول بـ” كتابها الجديد: “تعاقد لا تقاعد”، أنه ليس مجرد دراسة، بل مشروع ثوري يقصف أسوار المفاهيم النمطية عن “خريف العمر”، محولاً إياه من “مرحلة الركود” إلى “عمر الذهب والإبداع”.
يغوص الكتاب في تفاصيل عملية ونفسية معا. فهو لا يكتفي بالتحريض الفلسفي، بل يقدم “أدوات للانتفاضة”.
كيف تُهندس مشروعًا شخصيًا بعد التقاعد؟ كيف تتحول الخبرة إلى ميراث معرفي؟ كيف نرى التجاعيد لا كخريطة للنهاية، بل كسجل لحكايات يمكن أن تُروى؟ إنه يدعو القارئ إلى أن يكون “مهندسًا لمعناه” في مرحلة يظن المجتمع أنها مرحلة استهلاك المعنى لا إنتاجه.
“تعاقد لا تقاعد” هو أكثر من خبر في جريدة. إنه رسالة شخصية موجهة إلى كل منا، يذكرنا بأن أعظم عقودنا هو العقد الذي نبرمه مع أنفسنا على ألا نتقاعد عن الحلم، والعطاء، والحب، والحياة.
والكاتبة، ببلاغتها التي تذهب إلى الأعماق، لا تقدم إجابات جاهزة، بل تشعل أسئلة ضرورية.
إنها تذكرنا بأن النهاية الجميلة ليست تلك التي تأتي بعد حياة طويلة، بل تلك التي تليها حياة أخرى، مختلفة في الأدوات، متحدة في الجوهر: جوهر العطاء.
يعتبر هذا الإصدار حدثاً ثقافياً بامتياز، لا لأنه يلامس قضية مجتمعية ملحة فحسب، بل لأنه يصدر من كاتبة تمتلك أدوات بلاغية وفكرية حادة، قادرة على صياغة الأفكار العميقة بلغة سلسة تأسر العقل والقلب معاً. إنه الخبر الذي لا يعلن عن كتاب جديد فقط، بل يعلن عن رؤية جديدة للحياة نفسها.
هذا وما يزال القلم الإماراتي المعطاء، بتوجيهات من القيادة الرشيدة التي تؤمن بأن الإنسان هو أغلى ما تملك، يثري الساحة بإبداعاته، ليكون كتاب “تعاقد لا تقاعد” دليلاً ملهماً لكل من يبحث عن شمس جديدة تشرق بعد غروب تقليدي.



