مقالات وآراء

الحداثة البعدية لم تعُد مجدية

فهد سليمان الشقيران

حين تشكّلت فلسفات ما بعد الحداثة، كان العالم في الثلث الأخير من القرن العشرين يمرّ بتحولاتٍ سياسية وثوراتٍ طلابية ونزعات انشقاقيّة تهز الأوضاع والمؤسسات في عدد من الدول الصناعية.
لقد سيطرت في حينها حالة من الشعور بالملل، سواءٌ تجاه الإرث الحداثي، أو فيما يتعلق بالسكون الذي سببتْه الإحباطات الفلسفيّة الوجودية التي ركنت إلى الترويج لأفكار مظلمة مليئة بالبكائيات التي جعلت الوجودَ مجرد ورطة كما يقولون.
وكان من شأن ذلك الظرف أن مكّن فلاسفة ما بعد الحداثة من البدء في خوض غمار انقلابٍ فلسفي مهول، بغية زلزلة فلسفات سكنتها المأساة الوجودية، وبهدف ضرب الحداثات التقليدية وتفكيكها، وقد حققوا نجاحات كبيرة وأرسوا مفاهيم عتيدة وخطيرة.
لقد خدَم التغيّر العالمي آنذاك فلسفات ما بعد الحداثة، لأن الأمم كانت تتحدث عن الأقطاب الكبرى وأفكار الهيمنة وصراع الحضارات والأمم. أراد فلاسفة ما بعد الحداثة رسمَ خطٍ آخر مختلف، على كافة المستويات الاجتماعية والفلسفية واللغوية والانتروبولوجية.
وتاريخياً، فقد بدأ التكوين الفلسفي ما بعد الحداثي مع فرانسوا ليوتار في سبعينيات القرن الماضي، ولكن الصخب الفعليّ لفلسفات ما بعد الحداثة حدث مع جيل من الفلاسفة جمع بين الإبداع والجنون، كان أهمهم جاك دريدا وميشيل فوكو وجيل دلوز. وقد كان للأطروحات التي قدمها هؤلاء أكبر الأثر في تفكيك الفلسفة، بجميع مدارسها، منذ كهف أفلاطون وليس انتهاءً بهيغل.لقد تمكّنوا من بعث بعض المفاهيم الخاصة بكل من نيتشه وهيدغر بغية تحطيم قصر الحداثة، وطوّروا انطلاقاً من نيتشه مفهوم «الجينالوجيا»، وانطلاقاً من هيدغر طوروا مفهومَ «التقويض».. ثم بدأت منذ ذلك الوقت حالةٌ فلسفيةٌ أثارت الجدل طوال أكثر من نصف قرن.
إنها فلسفة مثقلة بالمفاهيم الصادمة التي أحرجت تاريخَ الفلسفات على طول امتداده، واستفزّ منها حتى بعض الماركسيين حيث تساءل «أليكس كالينيكوس» عما إذا كانت حالة ما بعد الحداثة ستؤسس لعصرٍ جديد؟! واستشهد حينها بما كتبتْه صحيفة «نيويورك تايمز» من أن ما بعد الحداثة هي «موضة ثقافية» هيمنت لعقود، وحينها من الصعب العثور على أي مظهر من مظاهر الحياة الثقافية المعاصرة لا يجري وصفه بأنه «ما بعد حداثي».
وما من شك في الظرف السياسي آنذاك خدم هيمنةَ ما بعد الحداثة، حيث كانت الليبرالية متضعضعةً، ولم العالم الغربي لم يتعافَ بعدْ من صدماته وحروبه وزلازله الكبيرة، كما أن صعود النظريات الانعزالية والنقاش القطبي حول التفوّق الغربي دفع بأولئك المغامرين للبحث في ماهيّة الإرث الغربي.
انتقدت فلسفاتُ ما بعد الحداثة الأحاديةَ السياسية وعلى رأسها الكلاسيكيات الليبرالية والماركسية، بالإضافة إلى ضرب سلطة العقل، والتشكيك في السياسات العقلانية، والذهاب نحو تفكيك المقولات والروايات الكبرى، وإنزال «الحقيقة» من على عرشها العالي، والذهاب نحو تفكير آخر مختلف كلياً عن كل ما ورثه الغرب من فلسفاتٍ ونظرياتٍ وحقائق.
بيد أن التطوّر الفلسفي والتكنولوجي والعلمي الكبير سرعان ما أدخل فلسفة ما بعد الحداثة في حالة انحسار وتراجع، وذلك لأن الظروف التي خدمت ما بعد الحداثة انتهت ولم تعُد قائمة، وهذا ما يلمّح إليه الفيلسوف إدغار موران.
والخلاصة، في رأيي الخاص، هي أن النقاش حول ما بعد الحداثة وفلسفاته لم يعُد مجدياً، بل إن ما يطرحه إدغار موران حول «فلسفة المستقبل» ومهمتها في تقديم مبادئ معرفية لمواجهة أزمات المستقبل، أكثر راهنيةً من اجترار تلك الفلسفات التي صارت جزءاً من التاريخ.

* نقلا عن “الاتحاد”

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى