مقالات وآراء

مجلس التعاون في مرحلة صعود القوة الناعمة الخليجية

محمد الرميحي

غداً تحتضن مملكة البحرين في عاصمتها المنامة أعمال القمة الخليجية السادسة والأربعين، في توقيت إقليمي ودولي بالغ الحساسية، تتقاطع فيه التحولات الجيوسياسية مع تسارع التحولات الاقتصادية والتكنولوجية، وتزداد فيه الحاجة إلى قراءة دور مجلس التعاون، ليس بوصفه إطاراً سياسياً وأمنياً فحسب، بل بوصفه تكتلًا بات يمتلك رصيداً متنامياً من القوة الناعمة القادرة على التأثير الهادئ والعميق في محيطه الإقليمي والعالمي.

هذه القمة لا تنعقد في سياق عادي، بل تأتي في لحظة يعاد فيها تعريف مفهوم القوة نفسه، وتُعاد فيها صياغة أدوات النفوذ، من منطق الصلابة والردع إلى منطق الجاذبية والإقناع، وبناء الصورة والشراكات طويلة المدى.

لقد تأسس مجلس التعاون لدول الخليج العربية عام 1981 في بيئة إقليمية مضطربة، كانت تتصدرها الحروب والانقلابات والصراعات الإيديولوجية الحادة، وكان الهاجس الأمني هو المحرك الأول لفكرة التنسيق الخليجي المشترك. لكن مسيرة المجلس خلال أكثر من أربعة عقود أظهرت تطوراً تدريجياً في طبيعة أدواره ووظائفه، حيث انتقل من إطار أمني دفاعي في المقام الأول إلى فضاء أوسع للتكامل الاقتصادي، ثم إلى منصة لصياغة الحضور الخليجي في النظامين الإقليمي والدولي. واليوم، ومع انحسار نسبي لفاعلية القوة العسكرية التقليدية في حسم الصراعات، تبرز القوة الناعمة، بوصفها الأداة الأكثر فاعلية واستدامة في صناعة النفوذ وبناء المكانة الدولية.

القوة الناعمة الخليجية ليست نتاج قرار عابر، بل حصيلة مسار تراكميّ طويل، بدأ مع الطفرات الاقتصادية، وتحديث البنية

التحتية، والتوسع في التعليم، والانفتاح المنظم على العالم، وبناء شبكات واسعة من العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية.

ومع تعاظم هذه العناصر، بدأت دول الخليج تمتلك قدرة حقيقية على التأثير في محيطها عبر نموذجها التنموي، واستقرارها السياسي النسبي، وانفتاحها الاقتصادي، وسياساتها الخارجية المتوازنة، وحضورها المتزايد في ميادين الديبلوماسية العالمية، وفي الإعلام، والاقتصاد، والرياضة، والثقافة، والعمل الإنساني.

وخلال العقدين الأخيرين، شهدت بنية الاقتصاد الخليجي تحولات نوعية عميقة، حيث تراجعت نسبياً هيمنة النفط على الناتج المحلي الإجمالي في عدد من الدول، وصعدت قطاعات السياحة، والخدمات المالية، واللوجستيات، والتكنولوجيا، والطاقة المتجددة، والصناعات المعرفية. هذه التحولات لم تكن اقتصادية فحسب، بل انعكست مباشرة على صورة الخليج في الخارج بوصفه فضاءً جاذباً للاستثمار، ومختبراً مفتوحاً للتجارب التنموية، ومنطقة قادرة على التكيف مع المستقبل، ومخزناً لرأس مال بشري متركم، بدل الارتهان الكامل لمعادلات الماضي.

وفي المجال الديبلوماسي، لعبت دول مجلس التعاون أدواراً متقدمة في الوساطة وبناء الجسور واحتواء الأزمات في أكثر من ساحة إقليمية ودولية. فقد تحولت العواصم الخليجية إلى منصات حوار بين أطراف متنازعة، وإلى ساحات آمنة للقاء الخصوم، وإلى مراكز لصياغة المبادرات السياسية والإنسانية. وهذه الوظيفة الوسيطة، القائمة على الثقة والمصداقية والقدرة على التواصل مع أطراف متعارضة، تمثل أحد أنضج تجليات القوة الناعمة الخليجية في صورتها الحديثة.

أما في البعد الثقافي والإعلامي، فقد توسعت أدوات التأثير الخليجي على نحو غير مسبوق، من القنوات الإعلامية العابرة للحدود، إلى المهرجانات الثقافية والفنية، إلى المعارض والمتاحف العالمية، إلى الجامعات الدولية، إلى استضافة الأحداث الرياضية الكبرى. ولم تعد هذه الأنشطة مجرد مظاهر رمزية أو ترفيهية، بل باتت جزءاً أصيلاً من منظومة القوة الناعمة، تسهم في تشكيل الصورة الذهنية، وبناء الجاذبية، وتعزيز الحضور الخليجي في الوعي العالمي.

وفي المجال الإنساني والتنموي، رسخت دول الخليج مكانتها كقوة خير إقليمية ودولية من خلال مساعداتها السخية، ومبادراتها الإغاثية، وبرامجها التنموية في عشرات الدول. وقد أضفى هذا البعد الإنساني على القوة الناعمة الخليجية بعداً أخلاقياً مهماً، عزّز من مصداقيتها، ووسع من دوائر تأثيرها، وجعلها حاضرة في الضمير العالمي، لا فقط في الحسابات السياسية الباردة بل في المجال الإنساني.

وتأتي القمة الخليجية في المنامة في ظل طموحات متزايدة لتعميق التكامل الخليجي، ليس على مستوى التنسيق السياسي فحسب، بل على مستوى توحيد السياسات الاقتصادية، وتعزيز السوق الخليجية المشتركة، وربط البنى التحتية، وتسهيل حركة الأفراد ورؤوس الأموال، وتكامل الاستراتيجيات التنموية. فكلّما تعمق هذا التكامل، تعززت القدرة الجماعية على إنتاج قوة ناعمة خليجية موحدة، تتجاوز الأطر القطرية الضيقة، وتخاطب العالم بصوت أكثر تأثيراً.

لكن لا يمكن فصل صعود القوة الناعمة الخليجية عن التحولات العميقة في النظام الدولي، حيث يشهد العالم اليوم إعادة تموضع في مراكز القوة، وتراجعاً نسبياً في الهيمنة الأحادية، وصعوداً لقوى إقليمية متعددة، وتزايدَ أهمية الأقاليم المستقرة اقتصادياً وسياسياً. وفي هذا السياق، يبرز الخليج بوصفه أحد أهم مراكز الثقل في العالم من حيث الطاقة، والتجارة، والمال، والاتصال اللوجستي، والاستثمار، وهو ما يمنح مجلس التعاون رصيداً إضافياً لتعزيز مكانته الدولية.

لكن هذا الصعود لا يخلو من تحدّيات حقيقية؛ فالمحيط الإقليمي لا يزال مضطرباً، والصراعات لم تُطوَ بعد، والتنافس الدولي على النفوذ في المنطقة يزداد حدّة، كما أن التحولات التكنولوجية المتسارعة تفرض سباقاً دائماً مع الزمن للحفاظ على الجاذبية والقدرة التنافسية. كذلك، فإن الرأي العام العالمي بات أكثر حساسية تجاه قضايا البيئة والحوكمة وحقوق الإنسان، وهو ما يستدعي مواءمة مستمرة بين الخصوصية الثقافية والمتطلبات الدولية.

كما أن الرهان على القوة الناعمة لا يكتمل دون بناء داخلي متوازن، يقوم على تمكين الشباب، وتعزيز التعليم النوعي، وتوسيع المشاركة الاقتصادية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتنويع مصادر الدخل. فالقوة الناعمة في جوهرها تنبع من الداخل، من شعور المواطن بالرضا والأمان والفرصة، قبل أن تتحول إلى رسالة خارجية مؤثرة.

إن مجلس التعاون اليوم لا يُختبر فقط بقدرته على إدارة الأزمات، بل بقدرته على تحويل رؤاه التنموية إلى نموذج متكامل يُحتذى به في الإقليم، نموذج يجمع ما بين الحداثة والاستقرار، بين الانفتاح والخصوصية، وبين النمو الاقتصادي والحفاظ على الهوية الثقافية التعددية.

وبينما تتغير أدوات القوة في العالم من السلاح إلى المعرفة، ومن الجغرافيا إلى الشبكات، ومن السيطرة إلى الشراكة، يبدو مجلس التعاون مؤهلًا، أكثر من أي وقت مضى، ليكون أحد أبرز نماذج صعود القوة الناعمة في القرن الحادي والعشرين، شريطة أن يواصل الاستثمار في الإنسان أولًا، وفي التكامل ثانياً، وفي بناء صورة جماعية أساسها الحوكمة، تعكس طموحات شعوبه، ودوره المتنامي في صياغة مستقبل المنطقة.

وتبقى قمة المنامة محطة مهمة لاختبار هذا المسار، ليس من حيث البيانات الختامية وحدها، بل من حيث قدرتها على تحويل شعارات القوة الناعمة إلى سياسات عملية، ومبادرات مشتركة، ومشاريع ملموسة يشعر المواطن الخليجي والعالم بآثارها المباشرة، لتغدو القوة الناعمة الخليجية واقعاً يومياً لا مجرد مفهوم نظري أو خطاب إعلامي.

* نقلا عن “النهار العربي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى