التحوّل الأهم في العلاقات الدولية
كما لم يحصل منذ أزمة السويس 1956، قد تعيد التداعيات المتصاعدة، لتصويت أكثر من 150 دولة على إعلان الاعتراف بالدولة الفلسطينية والدفع بحل الدولتين، رسم هندسة التحالفات الدولية الممتدة من واشنطن إلى بكين.
ومما يعزز قيمة ومغزى هذا التحول، ما حققه من التحرك المشترك بين عمودين استراتيجيين دوليين متمايزين، لعالم اليوم: المملكة العربية السعودية حارس الأماكن الإسلامية المقدسة، وفرنسا الدولة العلمانية التي لطالما زوَّدت إسرائيل بالسلاح منذ الستينات.
إنه أكبر تحدٍّ لاستفراد الولايات المتحدة بعملية السلام في الشرق الأوسط بوصفه ملمحاً من ملامح هيمنتها الكونية! مجسِّداً، بشكل صارخ، العزلة الدبلوماسية الإسرائيلية!
لا يتعلق الأمر بفلسطين فحسب، بل يعبِّر عن إرهاصات إعادة هيكلة شاملة للقوة العالمية. فرنسا -أقدم حليف لأميركا- تنفصل علناً عن السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وحتى بريطانيا -المهندس التاريخي لخرائط الشرق الأوسط الحديث- تراجعت بعد قرن من الزمان في التسويف وعرقلة الاعتراف بفلسطين.
لأكثر من 18 شهراً، وبرعاية سعودية – فرنسية حثيثة، عملت ثمانية فرق دبلوماسية مختصة على مختلف جوانب خطة التحرك من أجل حل الدولتين.
لم يكن الأمر شكلياً على الإطلاق، بل وُضعت جداول زمنية ومعايير وآليات إنفاذ محددة. وتنشئ المادة 12 صندوقاً دولياً للتنمية الفلسطينية بالتزامات أولية قدرها 50 مليار دولار على مدى 10 سنوات. لا ليكون «مساعدة» للدولة الفلسطينية، بل ليصبح رأس مال لبناء الدولة. وتنشئ المادة 15 هيكلاً أمنياً إقليمياً مع ضمانات دفاعية متبادلة ودولية لدولة فلسطينية مستقبلية. وتخلق بشكل أساسي علاقات تجارية تفضيلية بين فلسطين والأسواق الأوروبية، متجاوزةً النفوذ الاقتصادي الإسرائيلي تماماً.
كُرِّس «إعلان نيويورك – غزة» على أنه جزء لا يتجزأ من الدولة الفلسطينية الموحَّدة مع الضفة الغربية، المسالمة المتحررة من الاحتلال أو التهجير القسري.
إضافةً إلى ذلك، عزَّز الإعلان التزام الرئيس الفلسطيني بالتسوية السلمية، واستمرار رفض العنف والإرهاب.
في المقابل، حظيت إسرائيل وأميركا بتأييد باراغواي وبالاو وميكرونيزيا. ويا له من تحالف عظيم!
لم يكن مجرد دعم للحقوق الفلسطينية، بل إنه محاولة لمنع الانهيار الكامل للنفوذ الغربي في الشرق الأوسط. وأسهمت ثلاثة عوامل متزامنة في هذا التحول الدولي! أولاً، تداعي مقومات اتفاقات إبراهام، ليصبح عملياً التطبيع مع إسرائيل، رهناً بقيام الدولة الفلسطينية. ثانياً، إنقاذاً لمستقبلهم السياسي، اضطر القادة الأوروبيون إلى الاستجابة لجمهورهم، بعد محاولات يائسة للسيطرة على تسونامي الرأي العام الأوروبي. وثالثاً، حسابات الأمم المتحدة؛ إذ يُرعب إسرائيل وأميركا، اعتراف 150 دولة بفلسطين، والدعم الجليّ لأربعة من خمسة أعضاء دائمين في مجلس الأمن. ولا ينفع في ذلك النقض الأميركي أو تطوير العلاقات الدبلوماسية الثنائية أو الشراكات الاقتصادية.
من الحرب الكورية، إلى أزمة السويس، والأزمة الكوبية، وحروب الشرق الأوسط، وعلى مدى 75 عاماً، أدت السيطرة على الأزمات الدولية، إلى تعزيز النفوذ العالمي الأميركي عبر إدارة الأزمات.
على أهميته، لا ينحصر الأمر في الاعتراف بفلسطين، بل يعبِّر التحول عن بداية نهاية حقبة من الأحادية الأميركية في الشؤون العالمية، وبزوغ حراك دولي موازٍ لمنظومة الهيمنة والاستفراد الأميركي. بل يفكِّكُ الاعترافُ الأوروبيُّ بفلسطين، هذا الإطار برمَّته.
ماذا بعد؟ الأسئلة والسيناريوهات: سيواجَه مزيدٌ من التصعيد بمزيد من العزلة لإسرائيل، ويهدد الاتحاد الأوروبي بعقوبات اقتصادية ضد كل تصعيد، في استجابةٍ متدرِّجة؛ بدءاً من تعليق مزايا اتفاقية الشراكة، وحظر الأسلحة والتكنولوجيا المزدوجة، مروراً بالعقوبات المالية على المستوطنات، وصولاً إلى العزل الاقتصادي الكامل، على غرار جنوب أفريقيا.
وبينما يواجه الأوروبيون ضغوطاً سياسية داخلية هائلة، ستمارس الولايات المتحدة ضغوطاً استراتيجية كبيرة على حلفائها الأوروبيين. ستقاوم الولايات المتحدة إقامة دولة فلسطينية عبر القنوات الأوروبية، بما يقوِّض جوهرياً زعامتها. فذاك الأمر لو تحقق سيكسر الهندسة المعمارية الكاملة للزعامة الأميركية.
*نقلاً عن “الشرق الأوسط“