هل التكتلات الاقتصادية الجديدة قادرة على ملء فراغ النظام العالمي وإحداث تغيير؟

هل التكتلات الاقتصادية الجديدة قادرة على ملء فراغ النظام العالمي وإحداث تغيير في موازين القوى؟
ما يطغى على المشهد السياسي العالمي اليوم هو صورة التكتلات الجديدة والاقتصادية الطابع والهوية في معظمها. مع ترابط واتصال في حلقاتها السياسية والاستراتيجية. بسبب التداخل غير القابل للفصل، بين السياسة والاقتصاد من جهة، وبين التحدي الاقتصادي الذي علا على التحدي الأمني من جهة أخرى.
مصطلح التكتلات الاقتصادية از ECONOMICS BLOCKS
ظهر للمرة الأولى خلال النصف الثاني من القرن الماضي. بعد الحرب العالمية الثانية. حين بدأت ظاهرة الاندماج الاقتصادي أو economic integration بمفهومها التقليدي. ثم توسعت على شكل تكتلات اقتصادية إقليمية. فكان ظهور النواة الأولى للاتحاد الأوروبي، المنبثقة من اتفاق الجماعة الاقتصادية الأوروبية عام ١٩٥٧. وقابلها ظهور التكتل الاقتصادي الشيوعي في الاتحاد السوفياتي والدول الدائرة في فلكه.
من الأسباب التاريخية لظهور هذه التكتلات، الوضع الاقتصادي العالمي في السبعينات وما رافقه من انهيار لنظام ما كان يعرف باسم بترومين ووزر لأسعار الصرف الثابتة. وما صاحبه من أزمات مديونية واقتصادية في العديد من الدول . كما من أسبابها ايضا صراع ما بعد الحرب الباردة بين قطبي العالم ثم انفراط عقد الدول الاشتراكية .
أما أبرز أسبابها الحالية، فهو بلا شك تراجع دور الولايات المتحدة كنموذج قطبي أحادي، جامع لكل القوى الإقليمية والدولية. وذلك بعد الإخفاقات السياسية المحورية لواشنطن. وبعد تنامي دور الصين كمنافس عالمي اقتصادي. كما دور روسيا كمنافس سياسي دولي وإقليمي.
في جوهر قيام التكتلات مبدآن اثنان:
الأول يقول بضرورة التجانس في النظام السياسي الديمقراطي، والتجانس في النظام المالي الليبرالي الحر، للدول المنضوية في تكتل واحد. مثل حالة الاتحاد الأوروبي.
والثاني يعتبر أن التكتل في حد ذاته، هو حاجة متبادلة اقتصاديا وسياسيا، وهو ذات نفع متبادل للدول الأعضاء والشركات الكبرى. ولذلك فالتجانسان السابقان غير ضروريين لقيامه ولا يشكلان حكماً شرطاً لوجوده. بدليل منظومة الدول التي قامت حول موسكو السوفياتية سابقا. وبدليل تكتل بريكس BRICS حاليا.
المبدأ الأول في حالة الاتحاد الأوروبي ما زال قائما. بالرغم من كل الأزمات التي عصفت بدوله. أما الثاني فسقط أول نموذج له. وهو نموذج المنظومة الاشتراكية. والعين شاخصة الآن على النموذج الثاني. أي دول بريكس الخمس (برازيا – روسيا – الهند – الصين وأفريقيا الجنوبية). خصوصاً في ظل كلام عن احتمال توسعه وانضمام دول أخرى إليه. وبالأخص في ظل الحديث عن توجه هذا التكتل في قمته المقبلة، المزمع عقدها بين 22 و 24 من هذا الشهر (أغسطس 2023) في جنوب أفريقا، للبحث في إطلاق عملة موحدة خاصة بالتكتل في تبادلاته التجارية. وهو ما يعني إعلان التحدي الأول والمباشر لنظام الدولار الأميركي. مع ما يعني هذا المشروع البديل من طموح لتغيير موازين القوى الاقتصادية العالمية. علماً أن عدم التجانس الاقتصادي والجغرافي والثقافي والسياسي بين دول بريكس، يطرح الكثير من الأسئلة حول مستقبله كتكتل.
طبعا لا بد هنا من الفصل بين التكتلات الكبرى التي لدول المنطقة مصلحة بديهية في حجز مكان لها فيها. وهذا ما فعلته دول الخليج وبعض الدول العربية مع تكتل بريكس. وبين التكتلات التي تقوم على مستوى المنطقة والتي ترعاها دول الخليج نفسها. كما بادرت وحققت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة كما مصر وقطر وغيرها من دول الشرق الأوسط في الفترة الأخيرة. وهي تكتلات، وإن كانت إقليمية الطابع والهوية، إلا أن تأثيرها البعيد وغير المباشر، يتخطى نطاق الإقليم. ويسهم في إعادة رسم المشهد السياسي الدولي. لمجرد أنها كسرت نمطية الاصطفافات الدولية المفروضة على دول إقليم أو منطقة ما. في انتظامها الاقتصادي والسياسي.
بجانب هذه الصورة التنسيقية التكاملية للتحالفات، يبقى طبعا قيام تكتل عربي خليجي لدول المنطقة. والذي يملك مقومات التجانس التي قام عليها الاتحاد الأوروبي. حتى وإن لم تكن مكتملة التوافر الآن. لكنه يبقى تكتلاً ضرورياً لهذه الدول. ولما يمثل الشرق الأوسط من ثقل على المستوى المالي والاقتصادي والجغرافي والديني الثقافي. وهو ما أثبتته تجارب الدول الكبرى التي عززت دورها العالمي انطلاقا من الشرق الأوسط.
إشارة لا بد منها ههنا إلى مأساة لبنان. حيث سياسيوه ومسؤولوه مشغولون بمجرد إدارة فراغات دولتهم المتدحرجة، وقراءة آخر الخرائط البالية، وتعزيز خطوط نقل السلاح واستخدامه واستغلال ضحاياه. لهذا يبدو لبنان خارج الحدث الإقليمي والدولي. لا بل خارج حديث الزمن والعصر. كأنه مقيم في زمن بائد. خارج أي رؤية لمستقبل دول المنطقة. وخارج التحالفات والتكتلات كلها. بعدما كاد يفقد علة الوجود. التي وحدها تفتح له باب الحلول، بالتعاون مع المحيط والعالم، سعياً إلى إعادة الدور والهوية. فيما كل ما عدا ذلك، هو بحث عقيم.
* نقلا عن “النهار“
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.