ثقافة وفنون

د. دلال مقاري: قلق المشردين والبؤساء في جرأة الأدب الفرنسي

بقلم الدكتورة : دلال مقاري باوش ، ألمانيا

في سياق التعرف على ثقافات الشعوب، يحظى الأدب بأولوية عادلة، لأنه القناة الشاملة للتعرف الآخر، بوصفه تيارا يحمل في طياته بصورة متنامية كماهائلا من التيارات السائدة في تفاصيل ثقافة وحضارة أي شعب.

فالأدب يكاد يكون الجواب الشافي على كافة الأسئلة المتعلقة بماهية الموضوعات المهيمنة على تفكير وأحاسيس وإشكاليات البشر.

فمن خلال الأدب تستطيع كل ثقافة أن تسكب روحها وموروثاتها وذهنيتها بطريقة تعادل التعبير الدرامي، عبر الكلمة والصورة والوصف والمشاعر التي تمتلئ’ بها الأدبيات.

ومذ عرفناه، قدم لنا الأدب الفرنسي حالة مدهشة من التذمر والحرج والإستياء والنقد الذاتي، بعيدا عن معايير سوق الأدب القائمة على مقتضيات الربح والخسارة.

إذ تبنى الأدب الفرنسي منذ زمن طويل * تقديم معالجات مختلفة * لظاهرة البؤس والفقر والتشرد في المجتمع الفرنسي.

هذه الحقيقة التي تعكس عمق البؤس في المجتمع وسعي الأدب إلى معالجتها بالتعرية، والإستياء والنقد المندفع بحماس الثوريين للتغيير.

حيث حل التفكير الناقد محل الإضطرابات ، لتطوير نواة العمل والمسؤولية الثقافية تجاه الحرية والعدالة المجتمعية والتسامح.

فيما كان الإهتمام بالقضايا الإجتماعية تقليدا أدبيا عظيما في المجتمع الفرنسي، ليبدو الأدباء الأكثر تعاطفا وإيمانا بالفئات الفقيرة المستهدفة . حيث صور لنا فيكتور هيغو في رائعته البوساء، إهتماما تخطى حدود رسم ورصد حالة البؤس المجتمعي، ليكون صوته صرخة نقدية صارمة، لاقت إهتمام الجمهور الفرنسي، والعالمي بعد إنتشار الرواية كأدب مترجم.

قلّما عرف الأدب الأوروبي معالجات تماثل المعالجات الفرنسية، وقلّما صوّر الأدب الأوروبي حياة الفقراء والمشردين تعاطفا مع القضايا الإجتماعية.

إلا أن الأدب الفرنسي قد سعى حثيثا في العقد الماضي، لنبش أقبية البؤس، رغبة في معاجة المشاكل والأزمات الاجتماعية الناجمة عن الهوة الكبيرة الفاصلة بين الأغنياء والفقراء.

حيث ظهرت فرنسا وباريس بصورتين متناقضتين، تماما ( الجمال والقبح ) ( الحرية والإستعباد ) ( الثراء والفقر المدقع ).

ثنائيات جديدة تفتحت في الأدب الفرنسي، لعرض الصورة والحقيقة، لفرنسا التي تعاني من عيوب ذاتية، اجتماعية، لايستهان بها وتعيق من ناحيتها حالة الانسجام المجتمعي التي تنفجر على نحو من الجريمة، الانحراف السلوكي، الفقر، التشرد، والبؤس.

حيث أسبغ الأدب الجديد على نهر السين العظيم، وباريس الوديعة، صفات جديدة فضحت المظاهر الزائفة والمخادعة. وقدمت لنا بالمقابل ملامح المجتمع الفرنسي في القبية، على الأرصفة، وتحت الجسور، وخلف الجدران الرطبة.

لنسمع صوت الأدباء في نصوصهم، كأنها صرخة مستعارة، لفضح الواقع، والهوة السائدة بين الناس والطبقات المختلفة.

بين المدينة والريف، بين باريس وضواحيها، بين المواطن والمهاجر، بين الثراء والفقر.

كدعوة لتشجيع القدرة على الحوار على أساس حقوق الإنسان وكرامته.

هذا الاغتراب بين السياسة وأجزاء من المجتمع، الذي خلّف الإنهيار والفساد والفقر والاضطرابات، والإنتفاضات التي شهدتها فرنسا مؤخرا، دفع الى المزيد من الوعي المجتمعي، الذي انعكس أيضا على صورة وصوت ورسالة الأدب.

فمن منظور الأدب الفرنسي الحديث، الذي تناول حالات التوتر والصراع المجتمعي، فإن ثمة فجوة شاسعة تفصل بين طبقات المجتمع الفرنسي، جاءت نتيجة عدم اكتراث السياسيين بمساعدة الضفة التي تغرق في وحل نهر السين، تغرق بالفقر والحرمان والعنصرية والعدائية للأجانب، والنظرة الدونية للقادمين من الأرياف.

حيث تزايد الشعور بالضغط والوحدة، وسوء الظن بالآفاق المستقبلية، المتوقع أن تحيق بسوق العمل والحياة التي بلغت مستويات صارت تثير الفزع.

حالة عدم الاستقرار المجتمعي القابع على أرض زلقة من الثنائيات المتعارضة ، تذكرنا بعمل أدبي لإميل زولا بعنوان جيرمينال!

وحده الأدب الفرنسي من حمل على عاتقه مواجهة هذه الأزمة، بالدعوة إلى التحرك العاجل، بغية مجابهة الاشكالات، والمطالبة بإيجاد حلول سريعة لمسألة النهوض الاجتماعي، التي مازالت تتعثر مخلفة الفقر وعدم التوازن الطبقي، وحالات الانحراف والفراغ المادي والمعنوي.

حيث يصنف الأدب الفرنسي الحديث أزمات المجتمع بمحدودية الإمكانيات والإهمال، وانعدام الطاقة للخروج من الأرياف، المهملة والمغلقة وكأنها حلقة مفرغة من الإفتقار إلى قيادة اجتماعية سياسية قادرة على مد الجسور بين المدينة والريف، بين طبقات المجتمع، بتقديم الدعم وتأمين الفرص المناسبة من تعليم وتكافؤ فرص.

لقد واجه الأدب الفرنسي منذ هيغو وإميل زولا بجرأة ، قضايا عدم الإستقرار الإجتماعي، في سياق المطالبة بإجراءات سياسية وإجتماعية عادلة، تنتقد الرأسمالية والعولمة وتطالب بالإصلاحات الاجتماعية.

هذا الأدب الأوروبي الجريء، الذي انشغل بالقضايا الإنسانية والاجتماعية، حتى بات ذلك تقليدا أدبيا أتاح للبؤساء والمشردين فرصة أن ينقل صوتهم المتصاعد بالمعاناة اليومية، إلى كل أنحاء العالم.

ربما تفتحت شهية أوروبا على مواجهة المواضيع المغفلة، التي استعرضتها بعض المحاولات الأدبية الأوروبية باستحياء وتستر.

لعل ضوء التمرد والثورة الذي ينبثق من الأعمال الفرنسية، يفتح نوافذ العالم على ساحات البوح.

زر الذهاب إلى الأعلى