مقالات وآراء

محمد البرغوثي.. زيارة جديدة إلى ملحمة «شرق الدلتا»

 

محمد البرغوثى

محمد البرغوثى

 منذ سنوات طويلة، كنتُ قد فقدتُ الأمل تماماً فى إنقاذ «بحيرات مصر» من الحالة المزرية التى وصلت إليها، فقد كان الإهمال الإجرامى والتخريب المتعمد والتلوث بكل أنواع النفايات، هى السمة الغالبة على بحيرات مصر الشمالية، تلك التى وصفها الدكتور جمال حمدان فى كتابه الموسوعى «شخصية مصر» بأنها «سلسلة تُرصع رأس الدلتا وتُتوج قمتها، أو كشريط الدنتلا يطرز طرف ثوبها».و«حمدان» إذ يرصد فى نهاية الجزء الأول من كتابه الشهير، الصورة التاريخية لهذا العطاء الربانى المدهش، فإنه يُسارع على الفور إلى تسجيل آثار التدخل البشرى بتجفيف مساحات شاسعة من هذه البحيرات لاستزراعها أو البناء عليها، حتى تقلصت بحيرات مريوط وإدكو والبرلس والمنزلة من حوالى 641 ألف فدان إلى 461 ألف فدان، وبعد إضافة التجفيف المقترح -أثناء تأليف كتابه فى أوائل الثمانينات من القرن الماضى- توقع «حمدان» أن تتقلص مساحة البحيرات الأربع إلى 195 ألف فدان فقط.

وعلى امتداد حوالى ثلاثين عاماً من اشتغالى بمهنة الصحافة، كانت بحيرات مصر هاجساً ملحاً، وجرحاً لا يتوقف عن النزف، وقد بذل مئات الصحفيين والكتاب والخبراء جهداً كبيراً لتنبيه كل المسئولين إلى الجريمة التى تصل إلى حد الخيانة الوطنية، وإلى الخسارة التى يستحيل تعويضها، إذا تركنا هذه البحيرات لمافيا الاعتداءات بالتجفيف، وعصابات وضع اليد، ومسئولى المحليات الجهلة والفاسدين الذين سمحوا بالبناء فوق مساحات شاسعة منها، وتحويلها إلى مصارف لاستقبال مجارى البيوت والصرف الصناعى والزراعى، ولكن كل تحذيرات واستغاثات الكتاب والصحفيين والخبراء ضاعت فى مهب الفساد وموات الضمائر.

والحال كذلك، تعاملتُ مع إعلان الرئيس عبدالفتاح السيسى عن المشروع القومى لإنقاذ بحيرات مصر، وإعادتها إلى سابق عهدها قبل مائتى عام، بكثير من العطف، وتوقعتُ آنذاك -عام 2019 تحديداً- أن التقارير التى تم وضعها أمامه لم تكن دقيقة، وربما جانبها الصواب إلى حد كبير، وقد تذكرتُ حينها الصدمة التى انتابت مسئولاً كبيراً زار بحيرة المنزلة فى شرق الدلتا عام 2015، ويومها كاد الرجل أن يبكى وهو يطالع حجم الخراب العميق الذى آلت إليه أجمل بحيرات مصر الطبيعية، وفى طريق عودته إلى القاهرة قال لمرافقيه: «حسبنا الله ونعم الوكيل فيمن دمروا هذه البحيرة.. لقد ضاعت تماماً».

ولم أكن فى حاجة أبداً إلى معرفة ما قاله المسئول الكبير عام 2015، فقد كانت «بحيرة المنزلة» تحديداً جزءاً أساسياً من جغرافيا المكان الذى وُلدتُ وعشتُ فيه بمحافظة الدقهلية، وكانت حتى أواخر ثمانينات القرن الماضى هى ملاذنا الترفيهى وهى طريق مواصلاتنا البحرية إلى مدينة بورسعيد، وبعد انتقالى إلى القاهرة ظلت الرحلة إلى بحيرة المنزلة طقساً ثابتاً كلما قضيت إجازة طويلة فى قريتى، ولكن استمتاعى بالرحلة راح يتراجع مع زحف الخراب شهراً بعد شهر، وعاماً بعد عام، حتى جاء عام 2011 وتحللت قبضة الدولة، فتحولت البحيرة الربانية المدهشة، إلى مسطح مائى شديد القذارة وإلى وكر شاسع لأخطر اللصوص والمهربين وتجار المخدرات وفارضى الإتاوات، والأهم من ذلك أن البلطجية الكبار استولوا على كل شبر فيها، وقاموا بتقسيمها إلى أحواض صيد تخصهم، يتعرّض كل من يقترب منها إلى الخطف أو القتل!.

لهذا كله أشفقت على الرئيس السيسى وهو يجازف بهذا الوعد أمام الشعب كله.. وأشفقت على الهيئة الهندسية للقوات المسلحة من أن تواجه مشكلات خطيرة يستحيل معها إنجاز مهمة تطهير وتنظيف البحيرات فى المدة الزمنية القياسية التى طلبها الرئيس.

ومؤخراً -وتحديداً فى إجازة عيد الفطر الماضى التى قضيتها فى قريتى- ذهبت لزيارة أقاربى فى إحدى قرى مركز الجمالية بالدقهلية، وهى قرية تطل على الساحل الجنوبى لبحيرة المنزلة، وما إن اقتربتُ حتى خطفنى المشهد: سطح البحيرة الذى كان لونه أقرب إلى السواد من طول الركود والتلوث، أصبح رائقاً يعكس زرقة السماء فوقه.. ومياه البحيرة تتدافع فى تموجات هينة، تقطعها عشرات المراكب الصغيرة وتتناثر فى أرجائها صنادل مائية صغيرة تحمل حفارات تواصل تكريك البحيرة.. ومن بعيد تلوح بعض الجزر اليابسة خالية تماماً من أى مبانٍ.. وعلى امتداد البصر لا أثر على الإطلاق لغابات البوص الموحشة التى قامت عصابات تهريب السلاح والمخدرات باستخدامها والاختباء فيها من شرطة المسطحات.. حتى الأبراج التى شيّدها هؤلاء اللصوص لاستخدامها فى الحراسة وفرض الإتاوات اختفت تماماً.

وبعد أقل من ساعة من وصولى إلى بيت أقاربى، طلبت منهم أن نتجول بالسيارة على الطريق الجديد المحاذى لساحل البحيرة، فإذا بهم يقترحون اصطحابى فى جولة داخل البحيرة ذاتها.. وعلى امتداد أكثر من ثلاث ساعات قطع المركب المزود بموتور مساحات شاسعة من البحيرة، استرحنا خلالها عدة مرات فوق جسور الأحواض الجديدة التى قامت الهيئة الهندسية بإنشائها. وفى قلب هذا العطاء الذى وهبه الله لجغرافيا مصر، وتم إنقاذه من براثن الخراب، لم تقع عينى على منظر قبيح، ولم يخالجنى خوف من أن نسقط فى قبضة بلطجى، ولم تخالط أنفى غير روائح البحيرة القديمة شديدة النظافة.

كيف، ومتى حدث هذا الإنجاز الضخم؟! كان طبيعياً أن أسأل الدكتور أحمد خاطر، الأستاذ المساعد بمعهد البساتين فى مركز البحوث الزراعية، وعمه الدكتور الصيدلى السيد خاطر، وكنت فى ضيافتهما، فأكدا لى أن الهيئة الهندسية للقوات المسلحة تسلمت البحيرة فى مايو 2017، وفى مايو 2020 كانت قد انتهت من تحقيق هذا الإعجاز. وفى طريق العودة من البحيرة إلى قرية «لسا الجمالية»، كانت الساعة تقترب من الخامسة والنصف عصراً، وإذا بساحل البحيرة وقد تحول إلى كورنيش تفترشه عشرات وربما مئات الأسر، تستمتع بهواء نظيف وتشم روائح طيبة بعد عقود طويلة من إحكام إغلاق نوافذ البيوت التى تقع فى محيط البحيرة لصد جحافل البعوض وحجب الروائح الكريهة التى دمّرت صحة أجيال متعاقبة، وعرّضتهم لاعتداءات فاحشة من آلاف اللصوص والهاربين من أحكام.. وعاشوا لسنوات طويلة فى كل هذه الأماكن القريبة من البحيرة فى محافظات الدقهلية والشرقية ودمياط وبورسعيد وهم يحلمون باليوم الذى يغادرون فيه هذه المباءة الإجرامية. وها هم الآن -كما يقول الدكتور سيد خاطر- على وعد قريب جداً بأن تصبح البحيرة بعد تطهيرها وتنظيفها من العصابات، مقصداً لسياحة شاطئية أكثر جمالاً وإنسانية من كل سواحل المدن والشواطئ التى خطفها الأثرياء، وأصبحت تكلفتها المادية فوق احتمال غالبية المصريين.

فى طريق عودتى إلى قريتى استعادت ذاكرتى على الفور، التجربة التى تعرض لها الدكتور زكى نجيب محمود، أستاذ الفلسفة المرموق، عندما ذهب إلى أمريكا عام 1953 أستاذاً زائراً ومحاضراً فى جامعتى كارولينا الجنوبية وواشنطن، وأثناء وجوده فى إحدى قرى ولاية كارولينا ذهب مع صديق له لزيارة إحدى القرى.. ويحكى الدكتور زكى فى كتابه «أيام فى أمريكا» أن صديقه أخذه لزيارة مشروع محطة توليد كهرباء مقامة بين بحيرتين.. وهو يضيف بعد أن استمع لشرح أحد المهندسين لتفاصيل المشروع: «الحق أننى امتلأت بشعور حقيقى لا تكلف فيه، أننى واحد من فئة لا فائدة منها، وأعنى أولئك الذين قضوا حياتهم فى دراسات نظرية لا تشبع جائعاً ولا تكسو عارياً.. وإنى لأقول لنفسى إذ أرى وأسمع: أى مجنون فى الدنيا يرى هذه الأشياء تُصنع وتُقام، ثم يختار لحياته أن تُقضى فى تحليلات لفظية وشطحات خيالية نظرية كما أقضى حياتى؟»!

ثم يقول الدكتور زكى نجيب محمود: «خرجنا من محطة توليد الكهرباء وأنا أزفر زفرة المتحسر: ما أتفه دراستى أمام هذه المنشآت العظيمة.. فقالت لى السيدة «ب»: أنا لا أوافقك، فدراستنا إنسانية، وبغير مشاعر الإنسان لا تساوى هذه المنشآت شيئاً، فلولا أن النساء قد أحببن الماس لصار الماس حجراً خسيساً». والحقيقة أن شيئاً من حسرة هذا الفيلسوف الكبير قد راودنى وأنا أقارن اهتماماتى النظرية بهذه القدرات الفذة للعلماء والمهندسين والخبراء وحتى المقاولين الذين ينتشرون الآن فى قرى مصر وبحيراتها وشرايينها المائية وصحاريها لتنفيذ المبادرات والمشروعات الرئاسية القومية المذهلة التى غطت كل شبر من خريطة مصر، وأتاحت لنا فى زمن قياسى إنجازات ضخمة تحقّقت وأصبحت واقعاً نعايشه بعد أن كانت ضرباً من الخيال.

زر الذهاب إلى الأعلى