تنوُّعات ومفاجآت.. في الأرشيف البريطاني

أستطيع القول إن قراءة المحتويات التي يضمها الأرشيف البريطاني تقدم شيئاً فريداً من الإثارة غير المتوقعة وتستحضر التساؤل عن ظروف هذه الوقائع التي تحكي عن سيرتها هذه الوثائق البريطانية. في عام 1965 كنت في ذلك الوقت مديراً لمكتب وزير الخارجية المرحوم الشيخ صباح الأحمد، وكان لي لقاء مع السفير البريطاني في الكويت، خلال مناسبة لإحدى السفارات، واتذكر كنا نتحدث عن نشاط منظمة التحرير الفلسطينية في الكويت ومدى توافق هذا النشاط مع الدبلوماسية الكويتية ومدى قناعة الرأي العام الكويتي مع هذه النبرة الكويتية العالية في دعم القضية.
كنت أوافق على طرحه بأن نغمة الكويت حول الملف الفلسطيني عالية جداً وأن هذه النغمة مع غياب الأمل بحلول سلمية مع حدة المفردات في بيانات الكويت تثير المخاوف ولا تتناغم مع مصالح الكويت العليا. كنا في دردشة غير رسمية، وبعد سنوات طويلة ووفق قاعدة رفع السرية عن بعض الوثائق في الأرشيف البريطاني، قرأت ما كتبه السفير البريطاني آنذاك عن تلك الدردشة التي قلت فيها للسفير وبأسلوب المبالغة، إني سأذهب بعيداً عن الكويت اذا استمرت المبالغة في هذا التبني للملف، وبعد مرور سنوات طويلة فوجئت بالشيخ صباح الأحمد يثير الموضوع مع لوم شديد. ورغم تلك الواقعة، تبقى هذه التقارير أبرز الوثائق للاستهداء بمحتواها وتوظيفها في حياكة الأحداث واعتبارها مصدرا جوهريا في تدوين الوقائع.
ومن الملاحظات التي اكتشفتها فى هذا السجل الموثوق به أن التقارير البريطانية لا تترك شيئاً مهما كان هامشياً، فهي تسجل حديث الراوي ونغمة مفرداته وحجم الاعتماد عليه وكمية الثقة بالمتحدث. ومن المزايا التي لها أهمية تاريخية ما نجده في هذه الوثائق من نقد لنتائج لقاءات، سواء من المجموعة الأوروبية او مجموعة الكومنولث أو حتى الاجتماعات الثنائية التي تضم قيادات بريطانية وأمريكية، بعضها لا يُنشر أبداً، واذا ما تم النشر فيكون بعد نصف قرن من عمرها، وفق الاهمية والحساسية التي يحملها التقرير، وهما اللتان تتحكمان في الوقت المناسب لنشرها.
وتبرز أهميتها من المعلومات التي تحملها، وفوق ذلك من التحليل عن شخصية المتحدث وسرد ما يقول مهما ابتعد عن موضوع المناقشة، وغير ذلك توجد في هذه التقارير بيانات عن شخصية الحاكم الجديد والمسؤول الذي يأخذ مكان القائد المتوفى، الذي يرثيه السفير، وتتضمن هذه البيانات تقييم السفير للحاكم القادم. وخلال اشرافي على اصدار كتاب عن حياة المرحوم الشيخ صباح السالم، ومن خلال قراءتي للتعليقات وقفت على تحليلات من المعتمد البريطاني في دبي يشيد فيها بالأهداف التي حملها أمير الكويت في مساعيه لتعميق الترابط وتداخل المصالح التي يدعو لها الأمير، فقد جاءت جوهر مساعي الأمير في تشجيعه للترابط في إطار وحدوي جامع، كما لم تخل متابعة المعتمد لنشاط بعثة الجامعة العربية الى الخليج من مخاوف تشوه السمعة البريطانية.
ويمكن القول إن الأرشيف البريطاني يعكس المواقف البريطانية ويتخوف من تسلل النبرة العروبية والتآخي العربي والارتياح الذي توفره الجامعة العربية، كما عملت السلطات البريطانية على تطويق المنطقة بوجودها سياسياً وأمنياً وتجارياً وثقافياً، وشيدت جداراً سياسياً انعزالياً. ولم تحسب الدبلوماسية البريطانية احتمالات حدوث مفاجآت قد تصيب الدبلوماسية البريطانية وتدفعها الى طريق آخر. في عام 1966 أتذكر حضور المبعوث البريطاني الى الخليج متنقلاً بين الامارات والبحرين وقطر، وجاء الى الكويت لتأكيد البقاء البريطاني في المنطقة، وأن بريطانيا راضية عن الترتيبات المتبعة حول أمن الخليج، الأمر الذي زاد من الاطمئنان بتواصل الاستقرار ومتابعة مسيرة التطوير في مختلف جوانب الحياة. كانت حكومة العمال تتولى السلطة في بريطانيا، لكن هذا المبعوث الذي جاء مؤكداً بقاء بريطانيا يعود الى الخليج بعد شهرين معلناً الانسحاب البريطاني من الخليج، وبالطبع فقد كانت مفاجأة غير لائقة، وتوحي بالغش والاستخفاف، وخلقت مناخاً مزعجاً، دفع شاه إيران للتخطيط في تحمل مسؤولية أمن الخليج، وهو موضوع شائك وينقل المنطقة الى الانقسامات والترقب والشكوك. وأتذكر أن المرحوم الشيخ صباح السالم الصباح أمير الكويت قام بزيارة الى طهران وواشنطن وطبعاً الى المملكة العربية السعودية لأجل التنسيق، كما أتذكر كيف وضعت كل من لندن وواشنطن ثقتهما في تولي الشاه مأمورية تـأمين الاستقرار في المنطقة وتطويقه بالدعم السياسي والعسكري بجميع انواع الاسلحة، بما فيها الأكثر فعالية والأحدث تكنولوجيا، وبثقة كاملة في أهلية النظام الايراني لتولي المسؤولية ودون تشاور مع المسؤولين في دول الخليج. ففي زيارة الشيخ صباح السالم الى واشنطن جدد الرئيس الامريكي جونسون بأن الثقة في الشاه وقدرته على المسؤولية هي البديل عن الانسحاب البريطاني، وكانت بريطانيا مؤمنة بنفس المنطق في تأكيد الثقة بزعامة الشاه للواقع الخليجي، قرأت هذه الوثائق عندما توليت الإشراف على إصدار كتاب «حياة الشيخ صباح السالم أمير الكويت 1965 – 1977»، وكنت أناقش التفاصيل مع الكاتب الانكليزي الذي اخترناه لإعداد الكتاب. كانت السياسة التي اتبعها رئيس وزراء بريطانيا هارولد ويلسون في الاعتماد على شاه إيران والانسحاب البريطاني من الخليج دون إبلاغ حكام المنطقة أمراً معيباً وغير مسبوق في الدبلوماسية البريطانية، وأضرت بالمصداقية البريطانية التي أمنت لحكومتها ثقة حكام الخليج.
الحقيقة أن الأرشيف البريطاني لم يعمل على تأخير نشر الحقائق بعد سنوات وإنما احترم قواعد العمل ووضعها كما سجلتها أحداث المنطقة في ذلك الوقت وتم نشرها دون تأخير.
أتحدث من لندن متابعاً ما جاء في الأرشيف، معتمداً على أحد الذين تعاملوا مع الوثائق، ومقتنعاً بأن ما اطلعت عليه يسهم كثيراً في محتوى الكتاب الذي آمل تسجيله عن دبلوماسية الشيخ صباح الأحمد ومساعيه في تأمين حرص عربي مكثف لتأمين سلامة الكويت، التي لم يكن لها بديل سوى العيش عبر هذا الحرص المكثف.
*نقلا عن القبس