مقالات وآراء

تعريب الطب هل يخدم اللغة العربية؟

هاني نسيرة

فى سياق دولى وإقليمى متوتر ومتسارع، انشغل العالم خلال الأسبوع الفائت، بقرارات ومفاجآت دونالد ترمب، وفريقه الجديد المختلف جدا عن سابقه، من مشاداته إلى مطالباته إلى مكالماته.. فيما يشبه التوتر العالمى الذى يزعج الجميع، إلى التحولات الجيوسياسية فى المنطقة والشرق الأوسط، وتحديات تكنولوجية لا تقف عند الذكاء الاصطناعى وتطوراته المذهلة أو غيره.

بينما كل هذه التحديات تتزايد، فاجأنى وأثارنى تصريح رئيس جامعة الأزهر الفاضل الدكتور سلامة داوود، أن الجامعة جادة وشكلت لجنة لتعريب الطب فى كلية الطب التابعة لها.. وذلك فى ختام احتفالية أو مؤتمر عن اليوم العالمى للغة العربية، وأسئلة الهوية واللغة وخدمة للغة العربية.

نعم، لم يكن قرارا بتطبيق تعريب الطب فى جامعة الأزهر، ولكن كما أعلن رئيس جامعة الأزهر الدكتور داوود سلامة، خلال احتفالية اليوم العالمى للغة العربية فى ١٨ ديسمبر ٢٠٢٤، أنَّ مجلس الجامعة اتخذ خطوة تاريخية بتشكيل لجنة لدراسة تعريب علوم الطب والصيدلة والهندسة، مع إلحاح المتحدث باسم الجامعة على أنها مجرد لجنة ستقوم بدراسة متأنية للمسألة واحتمالات تطبيقاتها الممكنة.

بصراحة كنت أتمنى من الشيخ الجليل رئيس الجامعة أن يتجاوز مثل هذه الأمور، العرب ليست مشكلتهم هوياتية، فاللغة العربية باقية ما بقى القرآن، وهى أوسع انتشارا من أرض العرب، والإسلام دين ونص حى فى وجدانات المؤمنين به فى كل مكان، وكان أولى به أن يقدم ما يخدم هذه اللغة وتطوراتها فى العصر الحديث، سواء فى مجالات المعجمية والترجمة أو الهندسة اللغوية.. أو غيرها.. ولا يقتحم مجال الطب فى مؤتمر عنها.

الطب الحديث علم غربى، تطور نعم بمساهمات وتراكمات حضارية شرقية وغربية وتاريخية، ولكن لغته- ومنجزه المعاصر، عبر اختراعاته وأبحاثه ومراجعه- إنجليزية، ومصطلحاته ذات الأصل اللاتينى تنتشر بالإنجليزية، وهذه الدعوة لتعريبه ضرر على الهوية التى تحتاج المنجز الحضارى حتى تتحقق وليس الشكل اللغوى والخارجى فقط، الصين ودول آسيا لا تعانى أزمة هوية لأن لديها منجزها وتحققها.

وكما كتب الصديق الدكتور خالد منتصر- وهو ابن المهنة الطبيب- السبت الماضى، فى الصحيفة الشقيقة الوطن، ٢٤ ينايرالماضى، عن الأسباب الكثيرة والجوهرية التى تجعل مثل هذه الدعوات مزيدا من الشتات والجمود والتعطيل لمسيرة التنمية وليس دفعا لها. وفى تبريره لرفض تعريب الطب، كتب الدكتور خالد منتصر الأسباب التالية: عالمية المصطلحات الطبية الدولية، ومنها عالمية لغة الطب، وتدريسه بالعربية سيسبب قطيعة مع مصادر هذا العلم الدولية وشبكاته البحثية عالميا، كما هو حادث فى عدد من المجالات التى حبستها اللغة عن اكتشاف العالم والتفاعل معه، وهى مجالات نظرية بطيئة التطور وليس سريعة التطور شأن علم الطب.

ومما ذكره أيضا أن تعريب هذا العلم بلغتنا سيجعل هناك صعوبة فى فهم المراجع الطبية، فضلا عن أزمة الترجمة فى كل المجالات عندنا!، وأزمة تكلفتها، وأزمة دقتها، فضلا عن عالمية الإنجليزية التى تفتح سبل التبادل والتثاقف والتشارك والإضافة، وهذا لا يقلل من قدسية اللغة العربية يا سيدى!!.

ولعل من حقى أن أسال مسؤولى جامعة الأزهر ورئيسها، وهم من أساتذة الإنسانيات، ألا تعانى الإنسانيات، وهى الأكثر ثبوتا، من أزمة ترجمة، أليس لدينا فجوة حتى فى الدراسات الإسلامية والتراث الإسلامى بيننا وبين أصحاب اللغات الأخرى؟.

ختاما أرى أن خدمة اللغة والثقافة العربية لا تكون بلىّ عنق العلم، فكل منجزعلمى أو حضارى هو ملك لأصحابه، وحين اخترع الجبرتى الجبر نُسب إليه، وسمى ابن خلدون تصوراته الاجتماعية وفلسفة التاريخ علم العمران، وسمى أبوحنيفة علم التوحيد الفقه الأكبر.. والطب الآن بحكم الإمكانيات والمنجزات الحديثة يتقدم غربا ويكتب بلغة عالمية هى الإنجليزية، أما خدمة ومكانة العربية فهى محفوظة ومخدومة لأنها لغة مقدسة لكتاب مقدس يحافظ عليها المؤمنون به، ولا يزيدها كما لا ينقصها تعريب علم أو تغريب علم؛ إنما يخدمها تبسيطها وتبسيط قواعدها ومعجمها وتطويرها وإذا أنتجنا علما لنجعله عربيا.. وتوفير الثقافة والبيئة والسياق الداعم لذلك.. والمتحاور مع العالم المتفاعل مع منجزاته.. ولا يصح القياس على الطب فى سوريا، فخريج الطب فى سوريا يعانى حتى يلتحق بالعالمية.. ومتابعة المنجز العالمى.

ظنى سيتراجع رئيس ومجلس الجامعة عن قرارهم، بعد الدراسة المتأنية التى صرحوا بها.. لأن الموضوع معضل وتعطيل وتطويل لن يضيف لهذا العلم المزدهر فى بلادنا الكثير بل سيرجع به.

*نقلاً عن “المصري اليوم

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى