أشواق الكويت وترحيبها.. بقادة المجلس
بعد أيام يلتقي قادة دول مجلس التعاون في مؤتمرهم السنوي، الذي يجمعهم كل سنة في إحدى العواصم الخليجية، مجددين الذكرى التاريخية في ولادة فكرة قيام مجلس خليجي تعاوني، يوفر إطاراً لقادة دول الخليج للقاءات تناقش قضاياهم، وتشرح واقعهم، وترسم مسار مستقبلهم، وفوق ذلك، استعراض علاقاتهم بالرابطة التي تجمعهم مع الدول العربية وجامعتهم، عبر علاقاتهم الثنائية مع العرب، ومع الآخرين من سكان الكرة الأرضية.
جاء هذا الاقتراح من مبادرة طرحها المرحوم الشيخ جابر الأحمد، أمير الكويت 1977–2006، على القادة الخليجيين، عندما التقوا في العاصمة الأردنية عام 1979، في إطار القمة العربية، شارحاً مسبباتها بعد توجهات الرئيس السادات لتوقيع اتفاقية سلام مع اسرائيل، وما أفرزته من انقسامات أجواء عربية غير مسبوقة في توترها وخطورتها، ومع الترحيب المبدئي، تولت الكويت تحويل الفكرة إلى مشروع يتسيده التآخي الخليجي التاريخي في التعامل مع المستجدات، التي قد تؤذي استقرار منطقة الخليج الاستراتيجية للأمن العالمي، لما تتميّز به من تواجد الطاقة الأساسية لسلامة الأسرة العالمية.
وإدراكاً لأثقال المسؤولية، التي تتحمّلها دول الخليج في الأمن العالمي، وافق القادة على عقد اجتماع لوزراء خارجية دول الخليج، لبحث الورقة الكويتية، وبعد لقائين لوزراء الخارجية، جاءت الموافقة على الورقة الكويتية، التي تركز على التعاون، وتختار المسار الاقتصادي كهدف يحقق التلاقي في السياسات وفي المصالح، ويعمق الترابط التاريخي بين هذه الدول.
وبعد اجتماعين لوزراء الخارجية، تمت المصادقة المبدئية على الوثيقة، التي ستدفع القادة إلى أول لقاء لهم.
أجمل ما في الورقة الكويتية دقة الابتعاد عن تعقيدات القضايا السياسية، والضغط على الترابط الاقتصادي والتجاري، وتسهيل التحرك الجماعي، مع الابتعاد عن المطبات السياسية، تولت الكويت شرح الفكرة وأهدافها لجميع الدول العربية، كما تم الاتصال بجميع الدول الغربية والشرقية.
في بداية أبريل 1981، قام الشيخ صباح الأحمد بزيارة موسكو، والتقى مع جرميكو وزير خارجية الاتحاد السوفيتي، شارحاً له مشروع مجلس التعاون وأهدافه، كان الرد إيجابياً مشروطاً بتأثير دبلوماسية الكويت على مسار المجلس، راغباً في التأكيد على الابتعاد عن التحالف مع الغرب، كنت جالساً بجانب الشيخ صباح، متابعاً حماس جرميكو في التأكيدات، التي قدمها الشيخ صباح حول أهداف المجلس، ودوره في تعظيم الاعتدال والتآخي مع الجميع.
عدنا من موسكو، وكلفني المرحوم الشيخ صباح بزيارة دول الخليج، وشرح التفاصيل التي طرحها الوزير السوفيتي الصارم في مواقفه.
ومع تلك الجولة تحركت الاستعدادات للقمة في أبوظبي في 25 مايو 1981.
ذهبت إلى أبوظبي مع الوفد الكويتي، ومع ترؤس المرحوم الشيخ زايد للدورة التاريخية، التي انطلق فيها المجلس، كانت أجواء التفاؤل تنقل التصميم الخليجي على التكاتف الصلب للمرحلة المقبلة، التي ستنقل الخليج إلى آفاق مختلفة.
في قمة أبوظبي وقّع القادة على وثيقة قيام المجلس، وكلفوا وزراء المالية إعداد اتفاقية تجارية جامعة، تُعرض على القادة في قمة الرياض في نوفمبر 1981، وتم اختياري كأول أمين عام لمجلس التعاون، كما قدمت سلطنة عمان مذكرة إلى القادة، تشرح فيها تدخلات اليمن الجنوبي العسكرية والتخريبية، وتحريضاته ضد سلامة السلطنة، ونظراً لضيق الوقت، تمت إحالتها إلى قمة الرياض اللاحقة، وصدر البيان الختامي شارحاً الخطوط العامة، التي سيلتزم بها المولود الجديد.
ومن مدينة أبوظبي ذهبت إلى الرياض، حيث وجدت مساندة معبرة عن إيمان المملكة بالمجلس، واخترنا مقراً للمجلس، مع انضمام كفاءات لمساعدة الأمين العام لإكمال الجهاز، كان المرحوم الأمير سعود الفيصل وزير خارجية المملكة يساندني، مترجماً حرص المملكة على تجنيد جهودها لانطلاق أعمال جهاز المجلس، وكانت الأحداث في المنطقة تفرض علينا سرعة العمل، لاسيما بعد انفجار الحرب العراقية – الإيرانية، التي أشغلت أعمال المجلس وأولوياته من بدايتها حتى النهاية عام 1988، مع التزام بدعم سلامة العراق وتأمين مقاومته، وتبني الإصرار على وقف إطلاق النار، والحقيقة أن الحرب العراقية – الإيرانية تسيدت ملفات المجلس، ودفعت المجلس إلى فتح الملف الأمني، تأميناً لسلامة الدول الأعضاء، كما أخذ ملف الحرب وضرورة وقفها الأولوية في الدبلوماسية الخليجية.
في قمة الرياض دخل الملف الأمني والعسكري أولويات المجلس، حيث كان قرار القمة المصادقة على الاتفاقية الاقتصادية الرابطة للتعاون التجاري والاستثماري بين الدول، وكذلك تشكيل لجنة عسكرية لزيارة السلطنة، للاطمئنان على سلامتها ودعمها لوقف التحرشات اليمنية.
هنا نلاحظ أن وثيقة المجلس انفتحت للتعاون العسكري، ومنها تم لقاء وزراء الدفاع، ثم وزراء الداخلية، ووزراء النفط، كل ذلك لمواجهة إفرازات الحرب العراقية – الإيرانية.
كان عملنا في الأمانة العامة يستهدي بالقرارات، التي يتخذها القادة وضرورة تنفيذها، في إطار الأهداف التي حددها الميثاق، وما تم من إضافات له في الجانب العسكري والأمني.
كانت المساعي لتنفيذ القرارات تتطلب موافقة الوزارات المختصة، ولم يكن الأمر سهلاً، فكانت المخاوف حاضرة والترددات من أثقال المسؤولية غير المسبوقة واضحة في اجتماعات الوزراء المختصين.
كانت امكانيات الدول لتنفيذ القرارات مختلفة، بعضها قادر على هضم المطلوب وتنفيذه، والبعض الآخر يحتاج إلى وقت، وفي بعض الحالات يحتاج إلى إعفاء زمني يحدد الوزراء مدته.
ومن هذا الواقع برزت أيضاً متاعب التطبيق، مع الحرص على المصالح الوطنية، وكذلك عدم الاطمئنان لما يحمله المستقبل، فالحديث عن الوحدة المستقبلية لا يعني أن الدول الأعضاء تملك جاهزية التنفيذ، والبعض يستحق المزيد من الوقت، حتى تتوافر له القدرة على هضم القرارات.
ومن هذا الوضع، وخوفاً من حساسيات الدول تجاه إصرار الأمانة العامة على تنفيذ القرارات، وبشعور الحريص على سلامة المسيرة، كان الملك فهد ينصح وبقوة بأن نراعي وبدقة ظروف كل دولة، وتفهم العقبات التي تؤخر تنفيذ القرارات، مصراً على الالتزام بمبدأ التوافق، وإظهار سعة الصدر، وأن نتذكر في علاقاتنا مع الدول الأعضاء ضرورات سعة الصدر، التي تمتع بها سكان الصحراء.
كانت هذه التوجهات الآلية الملائمة، التي تحتاجها الأمانة في مسعاها لتنفيذ قرارات القمة وأولوياتها، كما تم قبول مبدأ الإعفاء من التنفيذ لبعض الدول، التي تحتاج إلى المزيد من الوقت.
هذه اللائحة من التوجهات أمّنت سلامة المسيرة، لاسيما في السنوات الخمس الأولى من حياة المجلس، كانت سرعة الانجاز التي تريدها الأمانة لا تلائم بعض الدول، وكان التوجّه تقبّل التأخير إلى أن تتوافر للدول القدرة على التنفيذ.
كان المرحوم الملك فهد يقول لي – كأمين عام مجلس التعاون: «نحن ستة أحصنة لا يتسابقون، وإنما يسيرون مع بعض في رابطة واحدة، عليكم في الأمانة السير وفق أبطأ حصان». وهكذا سرنا دون أية مضايقات للدول الأعضاء.
والآن تلتقي القمة الخليجية على تراب الكويت، واستذكاراً لواقع الفكرة، التي نبتت من تراب الكويت، نأمل انطلاقاً مكثفاً يسهم في تعظيم إسهامات مجلس التعاون.
* نقلا عن ” القبس”