مقالات وآراء

محمد البرغوثى.. «حكايات من دفتر صلاح عيسى»

محمد البرغوثى

«حكايات من دفتر صلاح عيسى».. هو عنوان الكتاب الذى صدر مؤخراً عن دار شمس للنشر، من تأليف الزميل محمد الشماع، الصحفى بمؤسسة أخبار اليوم، والزميلة هاجر صلاح، الصحفية بموسسة الأهرام، وقد اختار الزميلان أن يعهدا بكتابة المقدمة إلى واحد من أبرز المدافعين عن الاتجاه الرأسمالى العالمى فى السياسة والاقتصاد، هو الدكتور عبدالمنعم سعيد، الذى يقف فكرياً وثقافياً على طرف نقيض تماماً من المساحة الفكرية التى شغلها الراحل العظيم صلاح عيسى، بوصفه شيوعياً عتيداً ثم يسارياً ثورياً يشارك فى المظاهرات ويحرض على الثورة ضد كل ما يمت إلى الصهيونية والرأسمالية الغربية بأى صلة!.

واللافت أن الدكتور عبدالمنعم سعيد يسجل فى مقدمته للكتاب أنه كتب رسالة إلى هاجر صلاح يسألها فيها: «لماذا كان اختيارى للقيام بهذه المهمة؟، فأنا لست من الجماعة اليسارية فى مصر، وكذلك لم تكن لى صداقة خاصة مع الرجل الذى احترمته دوماً.. فى الحقيقة ربما لا أكون أفضل من يكتب هذه المقدمة».. وجاءه الرد واضحاً: «صلاح عيسى كان يقدرك ويُجلك جداً وهذا ما لمسناه أنا وزميلى فى أحاديث شخصية جمعتنا.. كما أن عدم انتمائك للجماعة اليسارية هو السبب الرئيسى فى رغبتنا أن تكون من يقدم الكتاب».

ومقدمة الدكتور عبدالمنعم سعيد التى تشغل عشر صفحات من الكتاب، هى نموذج مبهر للرحابة الإنسانية والفكرية التى لا تصادر ولا تقاطع فكراً لمجرد أننا نختلف سياسياً مع صاحبه، وها هو واحد من أشرس المدافعين عن الفكر الليبرالى الغربى -والأمريكى تحديداً- يكتب عن واحد من أمهر وأكفأ المنتمين إلى فقراء ومعذبى العالم، فيقول: «من هو صلاح عيسى؟».. ثم يجيب: «فى العادة من بلغ مقامه يكون شخصية مركبة.. إذ يجمع بين الإنسان والسياسى والصحفى والكاتب والمفكر والشخصية المتميزة بين الملايين، يحمل ملامح المركَّب المصرى كاملاً: الحزن والسخرية والرأى الرصين والعنيد أيضاً، أضف إلى ذلك درجة عالية من الاحتراف المهنى لم تعرفه إلا حفنة قليلة من اليساريين».

وبأمانة تليق بالكبار قيمة وقامة، يسجل الدكتور «سعيد» أيضاً أن معرفته الحقيقية بصلاح عيسى كانت فكرية، «فقد عرفته فى السبعينات عندما قرأت له كتاب (الثورة العرابية) وكان هذا الكتاب اكتشافاً كبيراً لقدرات تحليلية رفيعة لعالم اجتماع سياسى رصين، بعد أن كان التصنيف السائد لصاحبنا أنه يسارى من الأجيال الجديدة المعروف عنها الرطانة والحنجورية».. ثم يؤكد الدكتور سعيد أنه وضع صلاح عيسى على قائمة القراءة المستقرة بالنسبة له، لسبب آخر شديد الأهمية يتلخص فى «قدرة صلاح عيسى على تحقيق قدر كبير من النشوة ومتعة القراءة وإعطاء القارئ نقطة يصبح بعدها مختلفاً عما كان قبلها».

وهذه الملامح شديدة الأهمية فى تكوين ومسيرة صلاح عيسى (الكفاءة المهنية ورصانة الباحث ومتعة القراءة) هى ذاتها التى يكتشف قارئ هذا الكتاب أنها كانت أهم دوافع اثنين من المحررين لتسجيل تجربتهما فى العمل بجريدة «القاهرة» تحت رئاسة صلاح عيسى الذى شغل منصب رئيس تحرير الجريدة من عام ٢٠٠٠ حتى ٢٠١٤، وهى تحديداً الفترة التى تعامل خلالها مراهقو اليسار المصرى مع صلاح عيسى باعتباره «المناضل الذى باع القضية».

ومن الوهلة الأولى كان لا بد لى أن أتوقع فرحة ودهشة الزميلين محمد الشماع وهاجر صلاح، بكل لحظة جمعتهما مع رئيس تحرير بقيمة وثقافة وتكوين صلاح عيسى، فقد سبق لى أن عملت معه فى جريدة «الأهالى» لعدة شهور بعد تخرجى مباشرة فى الجامعة، وحتى هذه اللحظة لم أنس أبداً طريقته فى الحديث والصياح والسخرية وطقوسه فى الكتابة، وانتقاله السلس والمثير بين السياسة والأدب والاقتصاد والفنون والتاريخ وأحوال العمال والفلاحين والصعاليك على المقاهى، ثم المتعة التى تتحقق ببساطة مذهلة فى كل ما يقوله أو يكتبه، والأهم من كل ذلك، هذه الخبرة العميقة بالحياة فى القرى والمدن والمصانع والغيطان والسجون، وهى خبرة -إلى جانب ثقافته الموسوعية- رشحته دائماً لأن يكون مرجعاً لأى محرر أو كاتب يريد الإلمام بأى قضية قبل أن يكتب عنها.

ولكن صلاح عيسى إلى جانب هذا كله -لمن اقترب منه ولمن عمل معه أو قرأ كتاب الشماع وهاجر صلاح- كان مرشحاً دائماً لأن يكون «الأسطورة» التى صنعناها لكاتب ممتع ومناضل عتيد، ونحن نقرأ عنه وله، وما إن نقترب منه ونعرف أنه مجرد «إنسان» قد يقبل فى لحظة ما أن يعمل مع «السلطة» فى صحفها ولجانها، حتى ننقلب عليه ونخمشه بأظافرنا وتلوكه ألسنتنا، دفاعاً عن «الأسطورة» التى صنعناها له، ولكن شهادة «الشماع وهاجر» فى كتابهما عن تجربتهما معه فى جريدة «القاهرة» تكشف عن روعة وجود مثقف وإنسان مثل صلاح عيسى، على رأس مطبوعة تصدر عن وزارة الثقافة المصرية.. فرغم قيود العمل تحت تصرف سلطة تنفيذية، تفرض الكفاءة والثقافة الموسوعية وبيئة العمل السليمة قانونها الأعمق نفوذاً من كل قيود السلطة، وها هما اثنان من الصحفيين المبتدئين -آنذاك- يعرفان طريقهما المفرح إلى رحابة الفكر والإبداع والتفتح والتسامح، وهما يتشربان مبادئ العمل الصحفى تحت رئاسة رجل مثل صلاح عيسى.

ولعل شهادة الأستاذ والمفكر حلمى شعراوى -وهو أيضاً يسارى عتيد- عن صلاح عيسى، تصب فى هذا الاتجاه، فهو يرى أن «صلاح» بقبوله رئاسة تحرير «القاهرة»، كان قد أصبح واعياً لفكرة أن «الدولة ليست الحكومة»، وأنه إذا كان بإمكانه تقديم خدمة إيجابية للدولة فلا مانع، بغض النظر عن الحكومة، ويُقر «شعراوى» بأن جريدة القاهرة تحت رئاسة صلاح عيسى كانت جيدة، وكان يشارك فيها بمقالات يطلبها صلاح عيسى شخصياً.

ولكن، هل باع صلاح عيسى القضية فعلاً؟.. أعتقد أن الفصل الخامس الذى يتناول هذه القضية، من أهم فصول كتاب الشماع وهاجر صلاح، لأن هذا الفصل تحديداً يكشف عن خيوط جديدة فى قضية التظاهر ضد اشتراك إسرائيل فى معرض القاهرة الدولى للكتاب فى يناير ١٩٨١، وهى القضية التى كانت سبباً فى سجن صلاح عيسى وحلمى شعراوى، ولعلها أيضاً كانت أهم أسباب وفاة الشاعر المصرى العظيم صلاح عبدالصبور وهو فى أوج عطائه، بعد أن عانى طويلاً من اتهامات طيف واسع من المثقفين له، بأنه -وهو المثقف الطليعى- باع القضية أيضاً، فقد كان «عبدالصبور» يشغل آنذاك منصب رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب، وجاء الحديث عن اشتراك إسرائيل فى المعرض الذى يقع تحت رئاسته ليضعه فى مرمى نيران حطمته معنوياً وصحياً.. وكان صلاح عيسى أحد أهم أبطال قضية التظاهر ضد اشتراك إسرائيل فى المعرض، كلما جاءت سيرة صلاح عبدالصبور يسكت طويلاً قبل أن يقول: «صلاح عبدالصبور مات فطيس، مات دون ذنب اقترفه»، وتلك قضية أخرى تستحق وقفة مُفصّلة، لأنها تكشف بجلاء مؤلم عن ضيق الأفق وانعدام التسامح وسوء النوايا الذى عانت وما زالت تعانى منه حياتنا الفكرية والثقافية.

زر الذهاب إلى الأعلى