مقالات وآراء

رسائل موكب الملوك .. على ضفاف النيل

بقلم.. محمد البرغوثى

عاش المصريون ليلة السبت، الثالث من أبريل الجارى، ساعات استثنائية من المجد والاعتزاز الوطنى والحضارى، لم يسبق لأحد منا أن عاشها أو عاينها بكل هذا الوضوح المبهر. وقبل ساعات قليلة من نقل قنوات التليفزيون لموكب المومياوات الملكية وللحفل المدهش الذى فاجأ الجميع بروعته، كان أكثرنا تفاؤلاً يظن أن الأمر لن يلامس وجدان الغالبية العظمى من الشعب المصرى، وأن مثل هذه الاحتفالات الرمزية، بكل ما تحمله من رسائل، لن تهتم بها غير نخبة محدودة، وأن هذه النخبة ذاتها قد تنقسم وتختلف حول تقييمها لأهمية هذا الحدث وجدواه، وخصوصاً أنه جاء فى ظروف وأحوال معيشية وإقليمية شديدة التعقيد، يتعرض فيها المصريون لأخطر تحدٍّ وجودى فى تاريخهم، يتعلق بمياه النيل الذى أشرق على ضفافه -وفى مصر تحديداً- أول أنوار الضمير الإنسانى كله.

ولكن الاهتمام الشعبى الجارف بحدث موكب نقل المومياوات الملكية من التحرير إلى الفسطاط فاجأ الجميع، فقد تحولت شاشات التليفزيونات فى البيوت والمقاهى والميادين العامة فى عواصم المحافظات إلى شرفات أشرقت منها شمس الحضارة المصرية، تسمَّر أمامها عشرات الملايين من المصريين الذين تابعوا الحدث المبهر بكل تفاصيله، وما هى إلا لحظات من بدء بث فقرات الحفل المهيب، حتى راح مئات الآلاف من المصريين يلتقطون الرسائل الحضارية والثقافية والسياسية التى حرص صنّاع الحدث على تضمينها فى كل فقرة وكل مشهد من فقرات ومشاهد هذه الاحتفالية المهيبة.

قبل أيام قليلة من ليلة السبت ٣ أبريل، فاجأ الرئيس عبدالفتاح السيسى المصريين والعالم كله بأول تصريح شديد الوضوح حول موقف مصر من «سد النهضة الإثيوبى» الذى يهدد شريان الحياة الرئيسى لكلٍّ من مصر والسودان، ولأول مرة منذ عشر سنوات كاملة من التفاوض المرهق، ومن التعنت الإثيوبى، ومن الصبر المصرى الطويل، يتخلى الرئيس السيسى عن حلمه المعهود، ويتحدث بلهجة قاطعة حاسمة: حصة مصر من مياه النيل خط أحمر.. ولا يوجد أحد بإمكانه أن يخصم قطرة واحدة من حصة مصر.. «واللى عايز يجرب يجرب»، وبعد يوم واحد فقط من هذا التصريح الحاسم -الذى انتظرناه طويلاً- إذا بالقوات المسلحة المصرية تكشف عن مناورات «نسور النيل» المشتركة بين القوات الجوية المصرية والسودانية وعناصر من قوات الصاعقة لكلا البلدين، وإذا بالبيان الصادر عن الجيش المصرى يشير إلى أن المناورات شملت التدريب على عدد من الأنشطة المكثفة، من بينها «تنفيذ العديد من الطلعات الجوية لمهاجمة الأهداف المعادية وحماية الأهداف الحيوية بمشاركة مجموعة من المقاتلات متعددة المهام.. وتدريب قوات الصاعقة على أعمال الاقتحام والإخفاء والتمويه لتنفيذ العمليات الخاصة».

لقد أصبح الأمر -ولأول مرة منذ عشر سنوات- فى منتهى الوضوح، مصر لن تقف مكتوفة الأيدى أمام هذا التعنت الذى يستهدف حرمانها من شريان حياتها الرئيسى.. وقواتها المسلحة قادرة على حماية حقها التاريخى فى نيلها الخالد الذى قامت على ضفافه أعظم حضارات الكون. وأشرق من جريان مائه فجر الضمير الإنسانى.. وعقب هذه الرسالة القوية والحاسمة من رئيس مصر وجيش مصر، جاء حدث موكب نقل مومياوات ٢٢ ملكاً وملكة حافلاً برسائل إضافية شديدة الوضوح، تستند على حضارة عريقة فى قيمها الإنسانية وتخاطب بها حاضراً ملتبساً قائماً على التعنت والتخريب وحرمان الشعوب من حقها العادل فى حياة مستقرة آمنة.

قبيل الاحتفالية بساعات قليلة، كتب الرئيس عبدالفتاح السيسى على صفحته رسالة للشعب المصرى وللعالم أجمع قال فيها: «بكل الفخر والاعتزاز أتطلع لاستقبال ملوك وملكات مصر بعد رحلتهم من المتحف المصرى بالتحرير إلى المتحف القومى للحضارة المصرية بالفسطاط.. وهذا المشهد المهيب لدليل جديد على عظمة هذا الشعب الحارس على هذه الحضارة الفريدة الممتدة فى أعماق التاريخ.. إننى أدعو كل المصريين والمصريات والعالم أجمع لمتابعة هذا الحدث الفريد، مستلهمين روح الأجداد العظام الذين صانوا الوطن وصنعوا حضارة تفخر بها كل البشرية، لنكمل طريقنا الذى بدأناه.. طريق البناء والإنسانية». ومع الكشف عن خط سير موكب المومياوات اتضحت الرسالة المبهرة فى مضمونها: توجّه الموكب نحو كورنيش النيل.. نعم نحو كورنيش النيل.. ثم سار بمحاذاة النيل إلى منطقة جاردن سيتى.. ثم مضى مع النيل إلى قصر العينى.. ثم مع النيل إلى المنيل.. ومع النيل أىضاً إلى مصر القديمة.. قبل أن يصل إلى مستقره الأخير فى متحف الحضارة بالفسطاط.

قبل ذلك وبعده، كانت فقرات الحفل الفاتن تواصل إبهار المصريين بلوحات راقصة وموسيقية تم إعدادها مسبقاً فى المقاصد السياحية والأثرية التى خضعت لترميم وتجديد خلال السنوات القليلة الماضية، وإذا بها لم تترك شيئاً للمصادفة أو العشوائية، ولكنها جاءت تلخيصاً عبقرياً لروح مصر على مدار التاريخ، فقد امتد الترميم والتجديد من معبد الدير البحرى فى الأقصر إلى أهرامات الجيزة وكنائس مصر القديمة ومعبد يهودى ومتحف يونانى ورومانى ومتحف إسلامى، فى رسالة رمزية لا يمكن عبورها دون أن تحظى باهتمام العالم كله.. فهنا على أرض الكنانة تتجسد كل حضارات التاريخ الإنسانى.. وهنا على ضفاف نيلها الخالد لا مجال لإقصاء منجز حضارى أو دينى أو معمارى.. وهنا فضاء متسامح تتردد فيه كل ترانيم الشعوب دون تمييز أو تفرقة، فى انسجام عبقرى أخّاذ.

وهنا أيضاً، كان لا بد أن ننتبه إلى رئيس مصر وهو يغادر مجلسه منفرداً، لترصده الكاميرا فى مشية عسكرية مهيبة، وكأنه جندى شديد الانضباط، ثم وهو يقف «انتباه» فى حضرة أجداده وآبائه من ملوك وملكات مصر وهم على مشارف الاستقرار فى المتحف القومى للحضارة المصرية بمدينة الفسطاط.. ولقد كان مذهلاً أيضاً أن لا يفوّت صنّاع هذا الحدث المهيب إطلاق المدفعية ٢٢ طلقة، ورئيس مصر فى وقفة انتباه عسكرية إجلالاً واحتراماً لمرور موكب هؤلاء الملوك الذين يتقدمهم الملك «سقنن رع» آخر ملوك الأسرة السابعة، الذى بدأ حرب تحرير مصر من الهكسوس، وكشفت التقنيات الحديثة عن أنه فقد حياته وهو فى الأربعين من عمره، أثناء قيادته لإحدى المعارك الكبرى ضد الهكسوس.

هل هناك أدنى شك فى أن اختيار مومياء «سقنن رع» لتكون فى مقدمة الموكب المهيب رسالة شديدة الوضوح من رسائل النيل؟! أياً كان الأمر، يظل هناك شىء على جانب عظيم من الأهمية فى هذا الحدث، وهو أن حدثاً ثقافياً وحضارياً مثل حدث نقل المومياوات الملكية، أثبت بما لا يدع مجالاً لأى جدال أن الشعوب فى أشد الاحتياج إلى شىء من الزهو الحضارى، مثلما هى فى احتياج دائم إلى الازدهار الاقتصادى، وأن «القوة الناعمة» تثبت مرة أخرى أنها لا غنى عنها على الإطلاق فى توحيد الشعوب، وأن فعلها الساحر لا يقل أهمية عن فعل الجيوش والقوة الخشنة فى حماية مقدَّرات البلاد والعباد، ولعل وصول منسوب الرضا والاعتزاز الوطنى إلى أقصى مداه أثناء وبعد العرض المبهر يشير إلى أهمية القوة الناعمة فى صون التماسك الوطنى، وخصوصاً فى أزمنة العواصف السياسية والاقتصادية التى تتربص بكل شعوب المنطقة التى ننتمى إليها.

زر الذهاب إلى الأعلى