مقالات وآراءمميز

الاستمتاع المجاني بالنيل.. حق دستوري!

بقلم الكاتب.. محمد البرغوثى

فى العقود الأخيرة من حياته أقام عالم الجيولوجيا المصرى الشهير الدكتور رشدى سعيد (1920-2013) فى أمريكا، لكنه كان شديد الحرص على قضاء فصل الشتاء كله فى مصر. ومنذ عام 2005 وحتى رحيله كنت على اتصال دائم به أثناء وجوده فى مصر. كان الرجل – رحمه الله – عالماً فذاً فى الجيولوجيا وخبيراً دولياً فى قضايا المياه والسدود، وبالإضافة لذلك كان يمتلك ثقافة موسوعية فى التاريخ والسياسة والاقتصاد، واطلاعاً عميقاً فى مجالات شديدة التعقيد مثل علوم الفضاء والبيوتكنولوجى وتغير المناخ واقتصاديات الطاقة، ثم إنه كان قارئاً ممتازاً للتاريخ ومتابعاً للاكتشافات العلمية فى مراكز البحوث والجامعات المتقدمة، ومهتماً إلى أقصى حد بدور التعليم والبحث العلمى فى تقدم الدول.

وعلى الرغم من هذه الثقافة الموسوعية كان الرجل شديد البساطة فى ملاحظاته الثاقبة حول أحوال العباد فى مصر، فلم يحدث أبداً أن التقيته أو تحدثت معه تليفونياً إلا وكان «حرمان المصريين» من الاستمتاع بهبات الطبيعة هو محور حديثنا. والحقيقة أننى على كثرة ما تشردتُ على ضفتى نيل القاهرة لم أكن قد انتهبتُ إلى ظاهرة سرقة الحق فى الاستمتاع بالنيل من عموم المصريين لصالح فئة طفيلية مسيطرة، إلا عندما نبّهنى الدكتور رشدى سعيد، الذى كان دائماً يتساءل: هل يوجد بلد فى العالم يحرم غالبية مواطنيه من الاستمتاع المجانى بهبات الطبيعة ويمنحها كاملة لفئة مسعورة؟.. وما الذى يشعر به أب يطالبه أولاده بقضاء بعض الوقت فى رحاب النيل أو على شاطئ البحر وهو لا يملك التكاليف الباهظة التى تفرضها النوادى و«البلاجات» الخاصة على الناس دون حق؟!.

الأهم من ذلك أن هذا الرجل، الذى قضى عمره كله مهتماً بالمناجم والمحاجر والمياه والسدود والطاقة وحركة الرياح وتغير المناخ والتصحر وتآكل الشواطئ، كان فى الوقت ذاته يتحسر دائماً على حرمان المصريين من «الحق فى الجمال».. نعم، الحق فى الجمال.

فقد لاحظ الرجل خلال العقود الأخيرة من حياته الزحف الرهيب للعمران القبيح على القاهرة الكبرى من كل جهاتها، وكانت جولة سريعة له على الطريق الدائرى، ونظرة خاطفة على جانبيه، كفيلة بإثارة اشمئزازه من تفشى الفساد وغياب التخطيط وانعدام الرحمة فى كل شبر من الأرض، وكان عادة يتساءل: ألم يفكر مسئول أو موظف واحد فى ضرورة وجود مساحة خضراء أو حتى مجرد سور شجرى فى قلب هذه الكتل الأسمنتية المميتة؟.. ألم يقل لهم أحد إن شجرة واحدة أمام بيت أو عمارة كفيلة بتلطيف حياة هؤلاء الناس الذين يعيشون فى غابة من القسوة والقبح؟!.

منذ هذه الصحبة الممتعة مع هذا العالم العبقرى والإنسان المدهش، أصبحتُ أكثر إحساساً بالقبح الذى يحاصرنا، وأكثر اهتماماً بما يحدث على ضفاف النيل تحديداً، وخلال السنوات الماضية أخذتْ مشاهد السطو على النيل والزحف الإجرامى للعمران الشائه والقبيح تتكاثر بفظاعة مفرطة، حتى ظننتُ أن إزالة الأسوار ومقالب القمامة التى تحجب النيل وتحرم المواطنين من الاستمتاع المجانى به، أصبحتْ من المستحيلات، وأن الحرمان من الجمال أصبح قَدَراً لا فِكاك منه. وكنتُ كلما طالعتُ نصوص دستور 2014، الذى جاء بعد ثورتين، ووصلتُ إلى الفقرة الثانية من المادة 44 التى تنص على «حق كل مواطن فى التمتع بنهر النيل مكفول»، أشعر أن كل الحكومات تضيف نصاً غير مكتوب إلى هذا الحق الدستورى؛ مؤداه: «شرط أن يكون المواطن منتمياً إلى إحدى الهيئات التى تملك نادياً على النيل، أو لديه القدرة المالية التى تؤهله لقضاء بعض الوقت فى المطاعم العائمة التى تتكدس على ضفاف النيل!».

والذى حدث أننى – مثل كثيرين – صحوتُ مؤخراً على تحقيق ما ظننته مستحيلاً، نعم.. صحوتُ على ما أعتبره ملحمة إصلاح وتطوير مذهلة فى روعتها وإنسانيتها، لأنها تستهدف بالأساس إتاحة الحق فى الاستمتاع المجانى بالنيل لكل المواطنين، وها هى المعجزة تتحقق ببساطة من خلال مشروع قومى ضخم تقوم به وزارة الموارد المائية والرى، بتكليف من القيادة السياسية، وها هو الجزء الأول والثانى من مشروع «ممشى أهل مصر» يتحول من مخطط على الورق إلى واقع يشاهده الناس يومياً فى المسافة من إمبابة حتى كوبرى 15 مايو فى قلب العاصمة. وها هى وزارة الرى تكشف عن كل مراحل المشروع: تطوير وحماية وتجميل كورنيش النيل وإتاحته مجاناً لكل المواطنين فى المسافة من حلوان وحتى القناطر الخيرية.. ثم تطوير كل واجهات النيل أمام المدن والقرى على طول شاطئيه من أسوان حتى نهاية فرعى دمياط ورشيد.. وامتداد التطوير إلى ضفاف الرياحات والترع الكبرى فى كل المحافظات.

ووزارة الرى إذ تقوم بالإشراف على تنفيذ هذا المشروع لا تستهدف فقط المردود العملى الذى يحافظ على جوانب النهر والترع من الانهيار والتآكل، ولا المردود الاقتصادى والاجتماعى الذى أتاح 1.5 مليون فرصة عمل يومية خلال تنفيذ المرحلتين الأولى والثانية، ولكنها – للمرة الأولى فى تاريخها – تنتبه إلى الأثر الحضارى والبيئى لبناء كورنيش جميل يتضمن كل وسائل الراحة من مقاعد ودورات مياه وبرجولات وأشجار للاستمتاع المجانى بشاطئ النيل، ليس فقط فى العاصمة الكبرى، ولكن أيضاً فى المحافظات وفى كل المدن والقرى التى تطل على النيل أو أحد فروعه.

هذا الإنجاز قد لا يكون له أدنى اعتبار لدى كثيرين لا يشعرون بخطورة انعدام الجمال، وانعدام كل فرص الاستمتاع المجانى بهبات الطبيعة لدى الغالبية العظمى من المواطنين، ولكنه لدى علماء البيئة وتغير المناخ وعلماء الاجتماع، يمثل نقلة حضارة جذرية على كل المستويات، لأنه لا يقل فى أهميته للاحتياجات الإنسانية الضرورية عن الحق فى العمل والتغذية السليمة والسكن الصحى، فإلى جانب إتاحته لملايين فرص العمل اليومية فى الحضر والريف، فإنه يتيح أيضاً الحق فى الاستمتاع المجانى بهبات الطبيعة، واحترام احتياجات الإنسان غير المادية التى تعيد بناءه شعورياً وتنمّى إحساسه بالجمال والكرامة وتخلصه من مشاعر اللامبالاة والقسوة المفرطة والعنف، ومن معظم السلوكيات القبيحة التى تضاعفت وتوحشت بسبب انعدام مظاهر الجمال فى البيئة المحيطة بنا.

منذ سنوات ونحن نتابع حركة شق وبناء طرق حديثة، وحركة بناء مدن جديدة، وإنشاء عشرات الكبارى والأنفاق، ثم لا نشعر تجاه هذا كله بأنه يخص الغالبية العظمى من المصريين، وبأنه قد يكون مفيداً للمستقبل المنظور أو البعيد، ولكنه يتجاهل ضرورات الحاضر الضاغطة، ويقفز على احتياجات عاجلة ومطالب ملحة تمسك بخناق الوطن ومواطنيه، ولكننا الآن أمام رؤية مكتملة أتاحتها لنا عدة مشروعات قومية ضخمة تصب مباشرة فى تحسين حياة غالبية المصريين فى القرى والنجوع والكفور ومدن الأقاليم.. مشروعات تنقذ شرايين النيل وفروعه من الانسداد والإهمال الإجرامى، وتنقذ سكان العشوائيات الخطرة من تحطيم كرامتهم، وتنقذ الريف المصرى من غياب الخدمات وانعدام فرص العمل.. وهى بعد ذلك كله تعيد بناء الإنسان المصرى؛ بأن تمنحه بعض حقوقه المسلوبة قبل أن تطالبه بمزيد من الواجبات التى قصمت ظهره وحطمت إنسانيته طوال عقود وقرون.

ولكن.. هل كل شىء فى هذه المشروعات على ما يرام حقاً؟.. بالطبع لا، فهناك شىء شديد الأهمية غائب إلى حد كبير عن القائمين على هذه المشروعات المبهرة.. شىء إذا انتبهوا له من الآن – وقبل فوات الأوان – فسوف يغير وجوه الحياة إلى الأجمل والأنظف والأنقى.. إنه «الشجرة»، إنه رحمة الظل ومتعة إتاحته فى هجير الصيف وصقيع الشتاء للمُتعَبين والباحثين عن حقهم فى الراحة والرحمة والجمال. ولذلك حديث آخر.

زر الذهاب إلى الأعلى